
من جديد تدق أحداث دير أبوفانا ناقوس خطر العنف الطائفي بمصر وتفرض علينا كمواطنين تخطي منطق التعامل الاختزالي القائم علي توجيه إصبع الاتهام إلي أفراد بعينهم وأسلوب تضميد الجراح وتطييب الخواطر من خلال إعادة إنتاج عموميات خطاب الوحدة الوطنية.تدلل مصادمات المنيا الأخيرة بجلاء، وبعيداً عن المروج له حول خلفياتها وتفاصيلها، علي واقع تأجج المشاعر الدينية الاستبعادية الرافضة للآخر المسيحي أو المسلم في الشارع المصري، وقابليتها للاشتعال السريع والعنيف في لحظات مختلفة.أما أسباب ذلك فهي بكل تأكيد تعود من جهة إلي الطبيعة المركبة للخطاب الديني الرسمي وغير الرسمي، وبه تتداخل مساحات التسامح إزاء الآخر مع الشعور بالاستعلاء عليه، وادعاء احتكار الحقيقة المطلقة، ومن جهة أخري إلي الهيمنة المتصاعدة لقضايا ورموز ومنتجي الخطاب الديني علي المجال العام في مصر منذ سبعينيات القرن الماضي.عندما يشغل حديث الدين المساحة الأكبر من اهتمامات المواطن المصري ـ مسيحي ومسلم ـ ويستحيل الإطار التفسيري الرئيسي لواقعه المعيش، في ظل تراجع شامل لمنظومات القيم المدنية والعلمانية، تتراجع تدريجياً الأهمية الأخلاقية والمجتمعية لإدارة العلاقة مع الآخر الديني علي نحو يحترم التعددية، ويستند إلي المشترك الوطني والإنساني. من يتأمل في تحولات مصر في العقود الماضية يري صيرورة انتقال مرعبة في المجال العام من إعلاء قيمة التعايش المدني بين المسيحيين والمسلمين كمواطنين، مروراً بحالة ممتدة من قبول وجود الآخر علي مضض، ثم انتهاء باستبعاده بصياغات متعددة تراوح بين تقليص نقاط التفاعل معه في الحياة اليومية، واعتزاله من خلال بناء مؤسسات مجتمعية بديلة، تعتمد نهج الفصل خاصة في مجال المنظومة التعليمية وشبكات الخدمات.وعلي نقيض العديد من الأصوات، التي ارتفعت في الآونة الأخيرة، مطالبة بنشر القراءات الدينية المتسامحة مع الآخر، واستخدامها في مواجهة المنطق الاستبعادي، لن يكون الخروج من هذه الدائرة الشيطانية إلا باستعادة التوازن بين الديني الفاصل والمدني الجامع، في المجال العام بصورة تعيد تفعيل ذاكرة الجماعة الوطنية الواحدة وتؤطر لها من جديد في الواقع الراهن.إلا أن المعضلة التي تعانيها مصر اليوم هي غياب الإرادة السياسية، القادرة علي الدفع بجدية باتجاه مثل هذا التغيير وتحمل مخاطره. فقدت الدولة، منذ لحظة زمنية ليست بالقريبة، رسالتها المجتمعية، واستكانت إلي إدارة شؤون المواطنين علي نحو يضمن في المقام الأول الحفاظ علي بقائها بأقل خسائر ممكنة. لم يرتب ذلك في المجال العام مجرد إحكام قبضة الدولة علي مساحات الفعل السياسي، واختزالها رابطة المواطنة في علاقة أمنية بين الحاكم والفرد المجبر علي طاعته أو توقع سحقه إن تمرد، بل عني منذ السبعينيات تراجع دورها الاجتماعي والثقافي وألقي بها إلي غياهب أزمة شرعية دائمة التجدد. أنتجت ثنائية استمرار السلطوية السياسية والتراجع المجتمعي للدولة اختلالات خطيرة في الواقع المصري أحسنت القوي الدينية، مسلمة ومسيحية علي حد السواء، استغلالها لغزو المجال العام وطرح ذاتها كبديل لمؤسسات الدولة. ثم حالت السلطوية دون تمكين الفاعلين السياسيين المدنيين منافسة الدينيين، بعد أن حجمت من زخم الفريق الأول وتسامحت مع الثاني لحاجتها له كمصدر لتأمين حد أدني من الرضاء الشعبي. وهنا تحديداً يكمن أصل الداء الطائفي بمصر.
0 comments:
إرسال تعليق