إن الاهتمام الشعبي بالرياضة ليس حكراً على فقراء الأرض وبالقطع لا علاقة له بحضور أو غياب الديموقراطية، كما ادّعى عدد من المعلقين في مصر الذين ذهبوا إلى أن الولع بالرياضة هو نتاج لقمع النظام الحاكم وحالة السلبية المفروضة على شعب أصبح متنفسه الوحيد هو كرة القدم.
تابعت باهتمام النقاش العام الذي أعقب فوز المنتخب المصري لكرة القدم ببطولة الأمم الأفريقية ولفت انتباهي نزوع عدد كبير من الكتاب والمعلقين إلى الربط بين مظاهر الفرحة الشعبية الطاغية وتأزم حياة الأغلبية الساحقة من المصريين وافتقارها إلى السعادة، أو بعبارة أخرى التعامل مع الانتصار الرياضي على أنه آلية تعويضية في لحظة استثنائية تبعد حواس الشعب قليلاً عن بؤس الواقع. كذلك عمدت أصوات وأقلام عديدة إلى التشديد على خصوصية حالة الفرح بالمحروسة نظراً لعمق وتدفق الشعور القومي لدى عموم المصريين بالداخل والخارج على خلاف غيرهم من قاطني الكرة الأرضية، ثم اندفع بعضهم إلى مبالغات جد رومانسية حول مجتمع القلب الواحد والتلاحم الوطني اللانهائي وغيرها.
وحقيقة الأمر أن مثل هذه التفسيرات والانطباعات تجافي في اختزاليتها القراءة الموضوعية لدور الرياضة في حياة المجتمعات البشرية على تنوع ظروفها واختلاف حظوظها من رغد العيش أو شظفه، فالاهتمام الشعبي بالمنافسات الرياضية ونتائجها لا يقتصر بأي حال من الأحوال على فقراء الأرض من أهل الجنوب ولا يرتبط فقط ببحث هؤلاء عن مسكنات مؤقتة إزاء واقع مرير، بل يمتد ليشمل أغلبيات واضحة في مجتمعات الشمال الغنية، وكذلك تلك التي تشغل مرتبة وسيطة بين الشمال والجنوب. ولنبدأ بالولايات المتحدة الأميركية حيث مثّل باستمرار التنافس الرياضي لزعيمة العالم الحر مع الاتحاد السوفييتي السابق ودول الكتلة الاشتراكية وعلى مدار عقود الحرب الباردة الطويلة (1945-1989) محفزاً للمشاعر الوطنية الإيجابية ومدعاةً للفخار حين الانتصار.
في هذا السياق تطور اهتمام المواطنين الأميركيين الكبير بالدورات الأولمبية وحظوظ رياضييهم من الميداليات مقارنةً بالقطب المناوئ على النحو الذي أضحت معه الرياضة بمنزلة ميدان سلمي بديل لاستكمال الصراع بين القوتين العظميين. أما نهاية الحرب الباردة فلم ترتب تغيراً ذي بال في مستوى اهتمام الأميركيين بالمنافسات الرياضية، إذ حلت فقط مجموعة من الدول أهمها الصين وروسيا وألمانيا الموحدة وأستراليا محل الاتحاد السوفييتي السابق وما لبثت انتصارات الرياضيين الأميركيين تشعل الحماس.
أما عن ولع الأوروبيين بالرياضة خصوصاً منافسات لعبتهم الشعبية الأولى كرة القدم فحدث ولا حرج. لا تختلف كثيراً متابعة الإنكليز والفرنسيين والألمان والإيطاليين لنتائج منتخباتهم الوطنية في كأس العالم أو كأس الأمم الأوروبية عن الصورة الحماسية التي عبر عنها الشارع المصري خلال بطولة الأمم الأفريقية. في 1998 خرجت ملايين من الفرنسيين تحتفل بفوز فريقهم بكأس العالم بينما اعتبر لحظة ميلاد لشعور وطني جديد مستند إلى قبول تعدد الديانات والأعراق (معظم أعضاء الفريق وأبرزهم زين الدين زيدان كانوا نتاج الماضي الاستعماري لفرنسا). في 2006 وعلى الرغم من إخفاق الفريق الألماني في الفوز بكأس العالم على أرضه، احتفل مليونا ألماني في شوارع العاصمة برلين بالمركز الثالث وبالعروض الطيبة التي قدمها الفريق، بل تبلورت على مدار العقود الماضية ثنائيات تنافسية مهمة بين الأوروبيين محملة سلمياً بإرث الحروب والصراعات الأوروبية-الأوروبية الطويلة. المنافسة بين ألمانيا وإنكلترا، ألمانيا وفرنسا، ألمانيا وهولندا، إيطاليا وفرنسا، فرنسا وإنكلترا وغيرها جميعاً تدلل في حدتها وفي الاهتمام الشعبي الكبير بها على وظيفية الرياضة كإحدى ساحات الإدارة السلمية للصراع بين الأمم ومصدر لإعادة إنتاج المشاعر الوطنية. وكم هو طريف وتراجيدي في نفس الآن العودة إلى تاريخ المنافسة بين الألمانيتين الغربية والشرقية قبل الوحدة 1990 خصوصاً بالألعاب الأولمبية لإدراك إمكان استخدام الرياضة، بجانب عوامل أخرى بكل تأكيد، لتوليد شعور مصطنع بالصراع والتنافس بين أبناء الشعب الواحد.
وما يقال عن الأوروبيين يصح الدفع به حال النظر إلى منافسات كرة القدم في أميركا اللاتينية والكريكيت بين الهند وباكستان والرجبي بين دول الكومنولث وغير ذلك من الأمثلة الكثير. الحق، إذن، أن الاهتمام الشعبي بالرياضة ليس حكراً على فقراء الأرض وبالقطع لا علاقة له بحضور أو غياب الديموقراطية، كما ادّعى عدد من المعلقين في مصر الذين ذهبوا إلى أن الولع بالرياضة هو نتاج لقمع النظام الحاكم وحالة السلبية المفروضة على شعب أصبح متنفسه الوحيد هو كرة القدم. بعبارة بديلة، نحن أمام ظاهرة عالمية لا خصوصية مصرية بها.
أما الدفع بتميز وقوة الشعور الوطني لدي المصريين مقارنةً بغيرهم فهو طرح رومانسي يفتقد القدرة التفسيرية وتتضح محدوديته حين النظر إلى خبرات الشعوب الأخرى والآمال التي دوماً ما علقتها على انتصارات رياضية مرجوة. وللتدليل، في 1954 اعتبر الألمان فوز منتخبهم بكأس العالم لكرة القدم بمنزلة بعث وطني جديد لهم بعد أهوال الحرب العالمية الثانية وفي ظل واقع التقسيم المرير. هذه الحقيقة، التي رصدتها العديد من الكتابات وعبر عنها بشكل رائع فيلم سينمائي حديث الإنتاج هو «معجزة برن» (أقيمت كأس العالم 1954 في سويسرا وكانت برن محطة المباراة النهائية)، تكررت بصيغة مغايرة مع فوز الألمان بعد الوحدة بكأس العالم 1990 بينما عد لحظة ميلاد جديدة استثمرت بها طاقة وطنية هائلة وتشابهت جزئياً مع التفاعلات الشعبية في فرنسا بعد 1998. هنا أيضاً لا تميز للشعب المصري عن غيره في باب الولاء والانتماء الوطني، قد تختلف بعض المظاهر وتتنوع التفاصيل من بلد إلى آخر، إلا أن الجوهر الناظم للاهتمام الشعبي بالرياضة وعلاقتها بالشعور الوطني لا يتغير
الوهم المصرى،،،،،،والخصوصية
الخميس، ٥ يونيو ٢٠٠٨
Thank you for visited me, Have a question ? Contact on : youremail@gmail.com.
Please leave your comment below. Thank you and hope you enjoyed...
Please leave your comment below. Thank you and hope you enjoyed...
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 comments:
إرسال تعليق