
عندما نقلوه من وردية الصباح للعمل معنا في وردية الليل فوجئت, ثم رحبت به وقلت له:- أهلا يا محمود.أنا عرفته أول يوم عين فيه, أيامها كنت رئيسا لوردية الصباح, وهو جاء برفقة والده الشيخ الحريري, صاحب اللحية المعقوفة, الذي طلب أن ينفرد بي لأن لديه ما يقوله.صعدنا إلي البوفيه في الطابق الأعلي حيث أخبرني أن محمودا شارك في حرب اليمن, وفي إحدي المعارك كان قد صعد ربوة صخرية وكمن بعتاده داخل مغارة صغيرة أعلي هذه الربوة, ولم تلبث طائرة نفاثة أن انطلقت مخترقة الأجواء علي ارتفاع عدة أمتار من دماغه, فتهاوي من هول الصوت وراح في غيبوبة عميقة, وعندما عثروا عليه حملوه بين أيديهم مثل خرقة مسلحة, ولم يمر وقت حتي تبين أن صوت الطائرة مسح دماغه تماما ولم يترك فيه شيئا مما اكتسبه خلال سنواته التي عاشها, أصبح لا يعرف الناس ولا الأشياء ولا الكلام. وقال الشيخ الحريري إنه تولي تدريبه, بناء علي إرشادات الأطباء لأن والدته بهتت حين رأته هكذا ولم تلبث أن توفيت.وقال الشيخ إنه أخذ هذه المهمة علي مسئوليته. أخلي له حجرة السطح وبدأ يعلمه كيف يستخدم المرحاض والأكل والكلام, استمر في ذلك حتي كان يوم صعد السلم في طريقه إلي السطح ووجد محمود واقفا يمد إصبعه ناحية العشة يشير إلي الأوزة ويقول: - وزة.ويشير إلي الخروف ويقول: خروف.وعندما استدر ولمح والده أعلي السلم مد إصبعه ناحيته وقال:شيخوأخبرني الشيخ بأن الأمر تطلب سنوات من العمل والرعاية اليومية وأن محمود بوسعه الآن أن يتصرف, صحيح أن ما حصله ليس كثيرا ولكنه يكفي للتعامل مع الناس والدنيا التي يتحرك فيها, فهو يحلق ذقنه ويرتدي ثيابه كما تدرب جيدا علي ركوب الأتوبيس من المحطة المجاورة للبيت والنزول في المحطة القريبة من الهيئة, وصار يتصفح الجريدة, ويرد علي التليفون وعلي أي إنسان يتحدث معه, كل ما في الأمر أنه قليل الكلام.. ويلتحق اليوم بالعمل بناء علي توصية كبيرة وأراد الشيخ مني أن أهتم به مثل أخ, وأن الإدارة, عموما, سوف تتحدث معي في هذا الشأن.والحقيقة أن أحدا من الإدارة لم يتحدث لا معي ولا مع غيري, ولكنني شرحت الموقف للمشرف العام واتفقنا علي أن ندربه علي ربط البرقيات.. وهكذا جلس إلي مكتب في ركن القاعة وتسلم مغرازا بقبضة خشبية ومسلة وكرة من الخيط الدوبارة.. سيكون عليه مراجعة ترتيب برقيات كل بلد حسب أرقامه ووضع ورقة خالية مكان البرقية الناقصة, ثم يضيف غلافين من الورق المقوي لهذه الرزمة, ويدفع المغراز في زاويتها وهو يقوم نصف قومه ليستعين بثقله, ثم يخرجه ويستخدم المسلة التي يتدلي منها خيط الدوبارة ويصنع عقده في الزاوية العلياويعقدها ويقطع الخيط بالموسي,وعلي الغلاف, سوف يكتب اسم البلد وبداية أرقام البرقيات ونهايتها, في أقل من أسبوعين أتقن محمود هذا العمل, ومضت سنوات طويلة قبل أن أفاجأ به ينقل في وردية لليل, وما لبثت الأخبار أن ترددت عن أسباب هذا النقل, وهي أسباب غريبة لأن الصورة التي احتفظت بها ذاكرتي هي جلوسه مستغرقا جنب النافذة يبتسم لنفسه ويهز رأسه من هنا إلي هناك, وعندما يضغط المغراز يخرج لسانه ويمسكه بأسنانه, لا يفعل شيئا غريبا ولا يشرب الشاي ولا يستجيب لمناكفة أحد

Thank you for visited me, Have a question ? Contact on : youremail@gmail.com.
Please leave your comment below. Thank you and hope you enjoyed...
0 comments:
إرسال تعليق