مدعى الشعر وقاتلى الحلم

للوهلة الاولي قد يبدو هذا العنوان مستعارا من أدبيات الصراع الطبقي، بالمعني الذي أراده ابن سلام الجمحي عندما جعل للشعراء طبقات، أدناها المقلدون وأعلاها الفحول، لكن ما أعنيه بأقارب الشعر الفقراء شيئا مغايرا لهذا، لأن الشعر منذ أصبح لخرائطه مقياس رسم، وزجّه النقد المدرسي الداجن في خانات بدأ يفقد دلالاته الجوهرية، واضافة اي نعت للشعر او الشاعر هو انتحاء لغوي بامتياز، فنحن لا نعرف كيف يمكن لشاعر ان يوصف بأنه صغير اذا كان الشاعر الموصوف بالكبير هو شاعر فقط، واسم الفاعل هذا المنحوت من كلمة شعر لا يقابله اسم مفعول الا علي سبيل التندر كالقول بأن فلانا مشعور.الرواية التي تلوذ باللغة وجمالياتها كبديل عن أقانيهما كنوع أدبي هي من أقارب الشعر الفقراء، وكذلك القصة التي اصطلح النقد الحديث باطلاق صفة القصة الايقاعية عليها لأنها إذ تتخلي عن هويتها كنوع أدبي تضاف هي الأخري الي الأقارب الفقراء الذين يقيمون في ضاحية القصيدة النائية، والتي قد لا تصل اليها الاضاءة والماء.وقد لا يدرك بعض هواة النظم ما الذي الحقوه بالشعر وبأنفسهم ايضا عندما ساهموا في تعويم المصطلح، لأن الشعر كما قال ستيفن سيندر كان سوء حظّه منذ الولادة ان قماشته الكلام... وهو الكلام الذي نستخدمه في حياتنا اليومية، نشتري ونبيع به، ونغضب ونفرح به ايضا عندما نشاء التعبير عن انفعالاتنا....واذا كان الناشرون العرب قد أشاحوا عن الشعر لأنه بضاعة خاسرة وقابلة للكساد فليس لأن الناس عزفوا عن الشّعر، لأنه من صميم الحياة، وهو لصيق بذاكرتهم منذ كان الفن الوحيد الذي ملأوه بما لا يطيق لأنهم رسموا ونسجوا منه أفخاخا واحيانا حوّلوه الي أداة للتكسّب او الهجاء او الاستدراج!هواة النظم الذين فتنوا بقرائن الشعر وصورة الشاعر التي ساهمت الترجمة في جعلها مرادفا للإعفاء من كل الأعباء حيث يحق للشاعر ما لا يحق لغيره، تهمهم هذه الصورة الملفّقة للشاعر اكثر من الشعر، لهذا فإن التنافس المحموم علي أشدّه بين هؤلاء الهواة علي الحضور الجسدي في مهرجانات وعلي اكسسوارات اجتماعية ذات فحيح جنسوي، فالقصيدة هي آخر ما يحتكم اليه في عكاظ المعاصر.ما دام النقد الاستعراضي في الصحافة الثقافية قد أصبح البديل المقرر للنقد بمعناه الدقيق وثمة هواة نظم يحصون مجمل حراكهم الابداعي بعدد المقالات الصحفية التي تقول عن نصوصهم كل شيء كي لا تقول شيئا محدداً.... وصيغ من طراز: تستمد هذه المجموعة أهميتها من هذا الشيء او ذاك أصبحت مفرغة من أي مضمون، لأن الشعر لا يستمد أهميته الا من داخله ومما لا يهجع في باطنه من ممكنات تنتظر ناقدا حصيفا يفتح أمامها آفاقا للتأويل.ان كلمة شاعر في تراثنا العربي اعتراها الكثير من الالتباس، وأضاف الشعر العربي الحديث في طوره التجريبي المزيد من الغموض لهذه الصفة، فثمة شعراء بلا قصائد، لأنهم يحرصون علي حمل هذه الصفة حيثما ذهبوا، وقد ينفقون معظم الوقت والجهد علي القرائن المصاحبة لصورة الشاعر... أما الشعر ذاته فهو في مكان آخر تبعا لما قاله ميلان كونديرا عن الرواية في مقالة آسرة.ہہہأقارب الشعر الفقراء ينتحلون اسم العائلة ويتماهون في خطابهم وأنماط سلوكهم مع النموذج الذي رسّخته أدبيات الانحطاط في وعيهم او لا وعيهم ، وحين يصاب هواة النظم بالقنوط التام من العثور علي مرسل اليه يتصادي مع نصوصهم يفرطون في اصطناع الغربة، لأن الوهم المزمن في هذا السياق هو سوء فهم عميق لما قاله أبوتمام ذات سؤال عن عدم فهم ما يقال...وقد حسم النقد منذ زمن طويل هذه المسألة عندما أقام الفاصل بين الغامض والمبهم وأخيرا بين الفحم والماس، فثمة غامض تتلألأ أعماقه وتمور وثمة مبهم موصد علي كثافة لا تبلغ قيمة الصمت!ان مساحة الحرية التي يبرطع فيها هواة النظم وأقارب الشعر الفقراء في عالمنا العربي هي مساحة الاهمال واللامبالاة، وما يسمي الهامش علي سبيل التواطؤ هو في الحقيقة طرد من الحلبة، وتأقلم دفاعي مع الهجران!ان ما قاله عامل بسيط في استفتاء حول جدوي الشعر وما تبقي منه... يدير المفتاح في القفل بيسر وسلاسة لا يحققهما النقد المتحذلق، والمتأنق نظريا لكنه ما إن يترجل عن المنصة حتي يتعثّر بأول ما يصادفه.قال العامل: ان الشعر يغيّرني، فلا أعود بعد قراءة القصيدة كما كنت قبل قراءتها وهذا الدفاع الغريزي عن الشعر وجدواه يتجاوز بيانات ونظريات من طراز ما كتبه الثالوث الرومانسي الانكليزي وبالتحديد (شيلي). لكن أي شعر هذا الذي يغيّر الانسان؟ سؤال كهذا يتيح لنا اختلافا لا آخر له، لأن الأمر متعلّق بالتعريف، والشعر مراوغ وعصيّ علي مثل هذا التعريف، وقد يكون ما قاله هاوسمان عن القط الذي يحزر الفأر عندما يراه هو الأقرب الي فهم ما نعنيه باستحالة التعريف.لقد أضاف هاوسمان ايضا انه يحزر الشعر ولا يعرفه اذا اعترته قشعريرة وهو يقرأ او يسمع قصيدة، كأن الشعر عابر للجسد والعظم حتي النخاع!!ہہہان كلمة نخاع هذه تعيدنا الي مقالة للشاعر لوركا تعفينا من قول الكثير عن هواة النظم والمفتونين بقرائن الشعر...قال: اننا احيانا نقرأ كتابة تحت عنوان شعري، لغتها سليمة ونحوها مستقيم، وذات ايقاع صارم.. لكنها ليست في النهاية من الشعر ، وكأن لوركا أول من أضاف بعدا ثالثا لثنائية الشكل والمضمون في الشعر... لأن الشكل اذا كان هو اللحم، فإن المضمون هو العظم، ولا قيمة لهما اذا كان هذا العظم مفرغا من النّخاع!! لقد ساهم النقد بمختلف أنماطه في تعميق الالتباس حول الشعر مفهوما وجدوي وحاجة، لأنه بحث بالسكين عن رائحة الوردة وهو يشرحها، ولأنه بحث عن مصدر الألم في الجسد فقط، اضافة الي ما اقترفه النقد الاستثماري لحقّ الشعر وهو يضيف أجنحة الي قرون الفلفل كي يحوّلها الي يعاسيب كما يقول شاعر ياباني.....لقد حوّل أقارب الشعر الفقراء هذا الفن الي حرفة بحيث اصبحت ضواحيه النائية أهم منه، وهوامشه أهم من متونه، وهذا ما عبّر عنه صلاح عبد الصبور عندما وعد من يدلّه علي طريق الدمعة البريئة بكل ما أعطته الدنيا من التجريب والمهارة، لأن البكارة افتضّت منذ زمن بعيد، لهذا فإن العزوف عن الشّعر ليس بسبب الفقر المدقع في الرّوح أو لأن عصرنا كما يقال فقد أنبل ما فيه، لقد فاضت العملة الرّديئة بفضل التضخّم وتدنّي المعيار، ثم غيابه لصالح البورصة التي شملت أعز مقتنيات البشر، وهي الشهادة علي مكابداتهم وخسائرهم التي تندرج في التراجيديا.ان من يقترضون الآن من الشعر هم أضعاف من يسلفونه، لهذا يعاد الاعتبار الي ما كان مصنّفا في الغابر والزائل وفاقد الصلاحية. وقد يكون ما قاله ميلر ذات يوم عن توأمه الروحي رامبو مناسبا لهذا الأوان، فقد قال ان صوت الشاعر ان لم يكن اقوي من انفجار نووي فإنه سيتلاشي عند جدران اللامبالاة، وان كان ميلر نفسه يعرف ان صوت دراجة نارية في الشارع الخامس في نيويورك أعلي من صوت الشاعر، لكن الانسان الذي ربح العالم وخسر نفسه، قد يكتشف بعد فوات الاوان ان افتراس الأفعي او القط للعصفور ليس الوجه الوحيد للطبيعة والتاريخ، وان الفراشة قد تنتصر علي الأسد مثلما انتصر الانسان علي الديناصور!الالتباس إذن ليس في جوهر الشعر، فهو يتولي الدفاع عن ضرورته وجدواه ما دام هناك انسان يصبو الي تخطي شروطه ويضيق فمه عن ابتسامته مثلما تفيض دمعته عن العين!الالتباس في اقارب الشعر الفقراء وهواة النظم المأخوذين بقرائن الشعر لا بالشعر، في زمنٍ سطت فيه الاشباه علي الأصول وصار فيه الهديل مطالبا بالاعتذار الي النعيب!!!!