الجــــــــــــــــــــــــــــزء الثانى من وردية ابراهيم اصلان

قضي الليلة الأولي معنا وكأنه مازال في وردية النهار, جلس الي مكتبه في ركن القاعة بجوار النافذة المفتوحة الآن علي ليل شارع رمسيس وراح يباشر ربط البرقيات وهو يبتسم ويهز رأسه من هنا الي هناك.. ويعض علي لسانه بينما هو يضغط المغراز وعندما تقدم الليل اقتربت منه, لم يعد هو نفس الشاب الذي أتي به والده ذات نهار وحكي لي حكايته قبل ان يطلب مني ان اعامله مثل اخ, ثم ان الشيخ الحريري لم يلبث ان دعاني وبعض الزملاء لحضور زواجه, وذهبنا ورأينا محمود يجلس مبتسما الي جوار عروسه وهو يرتدي بدلة داكنة وربطة عنق حمراء, كانت العروس ممتلئة, وبيضاء وفرحة, ووجهها جميل جدا.لقد تقدم به العمر الآن وانتشر البياض في شعره القصير وامتلأ جسده وصارت رقبته اقصر وعندما جاء عامل البوفيه الليلي سألته:تشرب شاي يامحمود؟والتفت الي بنصفه الأعلي واتسعت ابتسامته وهو يتطلع الي كأنه يرجوني فطلبت الشاي.. وعندما جاءت الاكواب اشعلت سيجارة بينما نقل هو الكوب من الحافة وانتقي مكانا في منتصف المكتب ووضعه وقلب السكر بالمعلقة الصغيرة ثم نطرها ووضعها في الكوب مرة اخري, وراح يزاول العمل. اردت ان اسأله عن سبب انتقاله الي وردية الليل وان كان ذلك تم برغبته ولكنني لم اعرف ماذا اقول.. كنا سمعناعن سبب انتقاله الي وردية الليل وان كان ذلك تم برغبته ولكنني لم اعرف ماذا اقول.. كنا سمعنا قبل عام أو اكثر انه صعد الي الطابق الاعلي, حيث شئون العاملين الذين نعرفهم جميعا ويعرفوننا وقد صادف احد الموظفين يمشي في الطرقة الطويلة, ويقول هذا الموظف انه ما كاد يقول له:ـ إزيك يا محمود, حتي مال محمود علي أذنه وهمس:انا مش من هنا, وكنت عاوز اي مبلغ اكمل بيه حق التذكرة لغاية طنطا علشان اشوف امي.والموظف نزل فورا واخبر رئيس الوردية الصباحية بما حدث وقال:الراجل ده هيفضحكوا,ولكني استبعدت ان يكون هذا هو سبب نقله لأنه موضوع قديم جدا, كما انه كان تحول شائعة لم يتأكد منها احد, حينئذ سألته عن صحة والده وهو قال بنفس الابتسامة انه:مات الشيخ الحريري مات.وكنت انتهيت من شرب الشاي وقلت له:ـ اشرب الشاي قبل ما يبرد.قال:ـ اصل أنا مش باحب الشاي.تركته يواصل العمل, وجلست وبقية الزملاء نتحدث مثلما نفعل, وكان هو قد انتهي من ربط رزم البرقيات وقام يضع كل واحدة في الخانة المخصصة لها, ثم فتح الدرج الخشبي الكبير وأعاد المخراز والمسلة وكرة الدوبار بداخله وأغلقه بالمفتاح ووضعه في جيبه.والتفت الينا وقال علي مهله ان الولس هو الذي هزم عرابي, ونحن ابتسمنا لبعضنا لأن سيرة عرابي لم تكن وردت في اثناء الكلام, كان النهار طلع وبدأ الزملاء في الانصراف, وظل هو جالسا يتطلع الي الساعة المعلقة حتي السادسة تماما ثم قام واقفا وقال: سلام عليكم, ثم اتجه نحو الباب ومشي, بينما جلست انا في انتظار رئيس الوردية الصباحية لكي أسلمه المكتب. وهو لم يلبث ان جاء وقبل ان اسأله قال انهم نقلوا أبو اشرف عندنا لأنه اعتاد في الايام الاخيرة ان يدخل دورة مياه السيدات ويخبط علي باب المرحاض ويقول:ـ افتحي يا بنت أنا الحريري.ثم يستدير وينصرف. ----------------------------------------------------------------------3 يونيو من وردية إلي أخريبقلم : إبراهيم أصلانعندما نقلوه من وردية الصباح للعمل معنا في وردية الليل فوجئت, ثم رحبت به وقلت له:- أهلا يا محمود.أنا عرفته أول يوم عين فيه, أيامها كنت رئيسا لوردية الصباح, وهو جاء برفقة والده الشيخ الحريري, صاحب اللحية المعقوفة, الذي طلب أن ينفرد بي لأن لديه ما يقوله.صعدنا إلي البوفيه في الطابق الأعلي حيث أخبرني أن محمودا شارك في حرب اليمن, وفي إحدي المعارك كان قد صعد ربوة صخرية وكمن بعتاده داخل مغارة صغيرة أعلي هذه الربوة, ولم تلبث طائرة نفاثة أن انطلقت مخترقة الأجواء علي ارتفاع عدة أمتار من دماغه, فتهاوي من هول الصوت وراح في غيبوبة عميقة, وعندما عثروا عليه حملوه بين أيديهم مثل خرقة مسلحة, ولم يمر وقت حتي تبين أن صوت الطائرة مسح دماغه تماما ولم يترك فيه شيئا مما اكتسبه خلال سنواته التي عاشها, أصبح لا يعرف الناس ولا الأشياء ولا الكلام. وقال الشيخ الحريري إنه تولي تدريبه, بناء علي إرشادات الأطباء لأن والدته بهتت حين رأته هكذا ولم تلبث أن توفيت.وقال الشيخ إنه أخذ هذه المهمة علي مسئوليته. أخلي له حجرة السطح وبدأ يعلمه كيف يستخدم المرحاض والأكل والكلام, استمر في ذلك حتي كان يوم صعد السلم في طريقه إلي السطح ووجد محمود واقفا يمد إصبعه ناحية العشة يشير إلي الأوزة ويقول: - وزة.ويشير إلي الخروف ويقول: خروف.وعندما استدر ولمح والده أعلي السلم مد إصبعه ناحيته وقال:شيخوأخبرني الشيخ بأن الأمر تطلب سنوات من العمل والرعاية اليومية وأن محمود بوسعه الآن أن يتصرف, صحيح أن ما حصله ليس كثيرا ولكنه يكفي للتعامل مع الناس والدنيا التي يتحرك فيها, فهو يحلق ذقنه ويرتدي ثيابه كما تدرب جيدا علي ركوب الأتوبيس من المحطة المجاورة للبيت والنزول في المحطة القريبة من الهيئة, وصار يتصفح الجريدة, ويرد علي التليفون وعلي أي إنسان يتحدث معه, كل ما في الأمر أنه قليل الكلام.. ويلتحق اليوم بالعمل بناء علي توصية كبيرة وأراد الشيخ مني أن أهتم به مثل أخ, وأن الإدارة, عموما, سوف تتحدث معي في هذا الشأن.والحقيقة أن أحدا من الإدارة لم يتحدث لا معي ولا مع غيري, ولكنني شرحت الموقف للمشرف العام واتفقنا علي أن ندربه علي ربط البرقيات.. وهكذا جلس إلي مكتب في ركن القاعة وتسلم مغرازا بقبضة خشبية ومسلة وكرة من الخيط الدوبارة.. سيكون عليه مراجعة ترتيب برقيات كل بلد حسب أرقامه ووضع ورقة خالية مكان البرقية الناقصة, ثم يضيف غلافين من الورق المقوي لهذه الرزمة, ويدفع المغراز في زاويتها وهو يقوم نصف قومه ليستعين بثقله, ثم يخرجه ويستخدم المسلة التي يتدلي منها خيط الدوبارة ويصنع عقده في الزاوية العلياويعقدها ويقطع الخيط بالموسي,وعلي الغلاف, سوف يكتب اسم البلد وبداية أرقام البرقيات ونهايتها, في أقل من أسبوعين أتقن محمود هذا العمل, ومضت سنوات طويلة قبل أن أفاجأ به ينقل في وردية لليل, وما لبثت الأخبار أن ترددت عن أسباب هذا النقل, وهي أسباب غريبة لأن الصورة التي احتفظت بها ذاكرتي هي جلوسه مستغرقا جنب النافذة يبتسم لنفسه ويهز رأسه من هنا إلي هناك, وعندما يضغط المغراز يخرج لسانه ويمسكه بأسنانه, لا يفعل شيئا غريبا ولا يشرب الشاي ولا يستجيب لمناكفة أحد.

قضي الليلة الأولي معنا وكأنه مازال في وردية النهار, جلس الي مكتبه في ركن القاعة بجوار النافذة المفتوحة الآن علي ليل شارع رمسيس وراح يباشر ربط البرقيات وهو يبتسم ويهز رأسه من هنا الي هناك.. ويعض علي لسانه بينما هو يضغط المغراز وعندما تقدم الليل اقتربت منه, لم يعد هو نفس الشاب الذي أتي به والده ذات نهار وحكي لي حكايته قبل ان يطلب مني ان اعامله مثل اخ, ثم ان الشيخ الحريري لم يلبث ان دعاني وبعض الزملاء لحضور زواجه, وذهبنا ورأينا محمود يجلس مبتسما الي جوار عروسه وهو يرتدي بدلة داكنة وربطة عنق حمراء, كانت العروس ممتلئة, وبيضاء وفرحة, ووجهها جميل جدا.لقد تقدم به العمر الآن وانتشر البياض في شعره القصير وامتلأ جسده وصارت رقبته اقصر وعندما جاء عامل البوفيه الليلي سألته:تشرب شاي يامحمود؟والتفت الي بنصفه الأعلي واتسعت ابتسامته وهو يتطلع الي كأنه يرجوني فطلبت الشاي.. وعندما جاءت الاكواب اشعلت سيجارة بينما نقل هو الكوب من الحافة وانتقي مكانا في منتصف المكتب ووضعه وقلب السكر بالمعلقة الصغيرة ثم نطرها ووضعها في الكوب مرة اخري, وراح يزاول العمل. اردت ان اسأله عن سبب انتقاله الي وردية الليل وان كان ذلك تم برغبته ولكنني لم اعرف ماذا اقول.. كنا سمعناعن سبب انتقاله الي وردية الليل وان كان ذلك تم برغبته ولكنني لم اعرف ماذا اقول.. كنا سمعنا قبل عام أو اكثر انه صعد الي الطابق الاعلي, حيث شئون العاملين الذين نعرفهم جميعا ويعرفوننا وقد صادف احد الموظفين يمشي في الطرقة الطويلة, ويقول هذا الموظف انه ما كاد يقول له:ـ إزيك يا محمود, حتي مال محمود علي أذنه وهمس:انا مش من هنا, وكنت عاوز اي مبلغ اكمل بيه حق التذكرة لغاية طنطا علشان اشوف امي.والموظف نزل فورا واخبر رئيس الوردية الصباحية بما حدث وقال:الراجل ده هيفضحكوا,ولكني استبعدت ان يكون هذا هو سبب نقله لأنه موضوع قديم جدا, كما انه كان تحول شائعة لم يتأكد منها احد, حينئذ سألته عن صحة والده وهو قال بنفس الابتسامة انه:مات الشيخ الحريري مات.وكنت انتهيت من شرب الشاي وقلت له:ـ اشرب الشاي قبل ما يبرد.قال:ـ اصل أنا مش باحب الشاي.تركته يواصل العمل, وجلست وبقية الزملاء نتحدث مثلما نفعل, وكان هو قد انتهي من ربط رزم البرقيات وقام يضع كل واحدة في الخانة المخصصة لها, ثم فتح الدرج الخشبي الكبير وأعاد المخراز والمسلة وكرة الدوبار بداخله وأغلقه بالمفتاح ووضعه في جيبه.والتفت الينا وقال علي مهله ان الولس هو الذي هزم عرابي, ونحن ابتسمنا لبعضنا لأن سيرة عرابي لم تكن وردت في اثناء الكلام, كان النهار طلع وبدأ الزملاء في الانصراف, وظل هو جالسا يتطلع الي الساعة المعلقة حتي السادسة تماما ثم قام واقفا وقال: سلام عليكم, ثم اتجه نحو الباب ومشي, بينما جلست انا في انتظار رئيس الوردية الصباحية لكي أسلمه المكتب. وهو لم يلبث ان جاء وقبل ان اسأله قال انهم نقلوا أبو اشرف عندنا لأنه اعتاد في الايام الاخيرة ان يدخل دورة مياه السيدات ويخبط علي باب المرحاض ويقول:ـ افتحي يا بنت أنا الحريري.ثم يستدير وينصرف. ----------------------------------------------------------------------3 يونيو من وردية إلي أخريبقلم : إبراهيم أصلانعندما نقلوه من وردية الصباح للعمل معنا في وردية الليل فوجئت, ثم رحبت به وقلت له:- أهلا يا محمود.أنا عرفته أول يوم عين فيه, أيامها كنت رئيسا لوردية الصباح, وهو جاء برفقة والده الشيخ الحريري, صاحب اللحية المعقوفة, الذي طلب أن ينفرد بي لأن لديه ما يقوله.صعدنا إلي البوفيه في الطابق الأعلي حيث أخبرني أن محمودا شارك في حرب اليمن, وفي إحدي المعارك كان قد صعد ربوة صخرية وكمن بعتاده داخل مغارة صغيرة أعلي هذه الربوة, ولم تلبث طائرة نفاثة أن انطلقت مخترقة الأجواء علي ارتفاع عدة أمتار من دماغه, فتهاوي من هول الصوت وراح في غيبوبة عميقة, وعندما عثروا عليه حملوه بين أيديهم مثل خرقة مسلحة, ولم يمر وقت حتي تبين أن صوت الطائرة مسح دماغه تماما ولم يترك فيه شيئا مما اكتسبه خلال سنواته التي عاشها, أصبح لا يعرف الناس ولا الأشياء ولا الكلام. وقال الشيخ الحريري إنه تولي تدريبه, بناء علي إرشادات الأطباء لأن والدته بهتت حين رأته هكذا ولم تلبث أن توفيت.وقال الشيخ إنه أخذ هذه المهمة علي مسئوليته. أخلي له حجرة السطح وبدأ يعلمه كيف يستخدم المرحاض والأكل والكلام, استمر في ذلك حتي كان يوم صعد السلم في طريقه إلي السطح ووجد محمود واقفا يمد إصبعه ناحية العشة يشير إلي الأوزة ويقول: - وزة.ويشير إلي الخروف ويقول: خروف.وعندما استدر ولمح والده أعلي السلم مد إصبعه ناحيته وقال:شيخوأخبرني الشيخ بأن الأمر تطلب سنوات من العمل والرعاية اليومية وأن محمود بوسعه الآن أن يتصرف, صحيح أن ما حصله ليس كثيرا ولكنه يكفي للتعامل مع الناس والدنيا التي يتحرك فيها, فهو يحلق ذقنه ويرتدي ثيابه كما تدرب جيدا علي ركوب الأتوبيس من المحطة المجاورة للبيت والنزول في المحطة القريبة من الهيئة, وصار يتصفح الجريدة, ويرد علي التليفون وعلي أي إنسان يتحدث معه, كل ما في الأمر أنه قليل الكلام.. ويلتحق اليوم بالعمل بناء علي توصية كبيرة وأراد الشيخ مني أن أهتم به مثل أخ, وأن الإدارة, عموما, سوف تتحدث معي في هذا الشأن.والحقيقة أن أحدا من الإدارة لم يتحدث لا معي ولا مع غيري, ولكنني شرحت الموقف للمشرف العام واتفقنا علي أن ندربه علي ربط البرقيات.. وهكذا جلس إلي مكتب في ركن القاعة وتسلم مغرازا بقبضة خشبية ومسلة وكرة من الخيط الدوبارة.. سيكون عليه مراجعة ترتيب برقيات كل بلد حسب أرقامه ووضع ورقة خالية مكان البرقية الناقصة, ثم يضيف غلافين من الورق المقوي لهذه الرزمة, ويدفع المغراز في زاويتها وهو يقوم نصف قومه ليستعين بثقله, ثم يخرجه ويستخدم المسلة التي يتدلي منها خيط الدوبارة ويصنع عقده في الزاوية العلياويعقدها ويقطع الخيط بالموسي,وعلي الغلاف, سوف يكتب اسم البلد وبداية أرقام البرقيات ونهايتها, في أقل من أسبوعين أتقن محمود هذا العمل, ومضت سنوات طويلة قبل أن أفاجأ به ينقل في وردية لليل, وما لبثت الأخبار أن ترددت عن أسباب هذا النقل, وهي أسباب غريبة لأن الصورة التي احتفظت بها ذاكرتي هي جلوسه مستغرقا جنب النافذة يبتسم لنفسه ويهز رأسه من هنا إلي هناك, وعندما يضغط المغراز يخرج لسانه ويمسكه بأسنانه, لا يفعل شيئا غريبا ولا يشرب الشاي ولا يستجيب لمناكفة أحد.
0 comments:
إرسال تعليق