من حق المواطن المصرى ان يحصل على خدمة مدنية حكومية راقية تحترم توقعاته فى أن يحيا حياة كريمة بسيطة لا يشعر فيها بالإهانة والامتهان. ومن حقنا عليه أيضاً أن يقدم إلينا خدمة مدنية راقية لا تشوبها شائبة التعالى والغرور والتقصير، أو تتخللها كل فنون التعقيد والتطويل والتبديد.فالخدمة المتميزة هى أكثر أساليب رفع المعاناة فعالية، وكذلك أكثرها منطقية..وسبب ذلك أن المواطن –وهو دافع الضرائب- يمثل النواة الحقيقية لكل تقدم وازدهار داخل المجتمع المصرى ومن حقه ان يحصل على ما يحتاج إليه من خدمات تسهل له معيشته وتدعم لديه الإحساس بالولاء والانتماء.تلك هى الحقيقة البسيطة الأولى، أما الحقيقة الثانية التى لا تقل عنها بساطة فهى أننا جميعاً متساوون فى حقنا ((للحصول على الخدمة)) ولا يجب أن توجد الفوارق بين ((الناس اللى فوق والناس اللى تحت)) من حيث أولوية أو أفضلية الحصول على الخدمة، فجميعنا سواء عندما نتقدم بطلب استخراج رخصة قيادة، توكيل رسمى، بطاقة شخصية، أو إصدار سجل تجارى. هاتان الحقيقتان هما نقطة البداية التى يجب أن يرتكز عليها أى تطوير للخدمة المدنية (إنها حق وإننا متساوون أمامها). أما الحقيقة الثالثة المكملة لهما فهى أن ((الخدمة)) علم حديث بدأ الاهتمام به والتعرف عليه فى بداية الثمانينات على يد كارلسون رئيس مجلس إدارة شركة الطيران ((سكندنافيا SAS)) عندما تبين له أن معظم وقته يضيع فى محاولته لعلاج مشكلات للمسافرين كان من الممكن أن يتم حسمها على (كاونتر السفر) وعن طريق الموظف المباشر لعدم وجود نظام يسمح بالعلاج الفورى وقت وقوع الحدث على (الخط الأمامى)، فبادر بتقديم نظرية ((لحظة الصدق)) التى تمثل النواة الرئيسية لنظرية الخدمة ككل. وقوام هذه الفكرة هو أن تقديم الخدمة للآخرين يحتوى على نقاط عديدة يلتقى فيها مقدم الخدمة مع طالبها، وهذه النقاط يجب أن تتسم جميعها بالكفاءة والصدق وإلا تعثرت الخدمة ولم تصل إلى مستحقيها على الوجه الأكمل.إن نقاط التلاقى بين طالب الخدمة ومقدمها والعمل على تطويرها هى المحور الرئيسى لتطوير خدماتنا المدنية. وفى ضوء هذا المفهوم البسيط فنحن نحتاج أولاً: إلى رصد نقاط (لحظات الصدق) فى كل خدمة مدنية، ثانياً: تبسيط هذه النقاط إلى الحد الأدنى، ثالثاً: تطوير أداء هذه النقاط بصورة مستمرة آخذين فى الاعتبار وجهة نظر متلقى الخدمة.. لا وجهة نظر مقدمها، رابعاً: توصيل هذه الخدمة إلى مستحقيها كلما أمكن ذلك لضمان تقليل الجهد الذى يبذله مستحق هذه الخدمة.. تلك هى المبادئ الأربعة الرئيسية لتطوير الخدمة الحكومية للمواطن ((المصرى)). وتلك هى حجر الزاوية أو المحور الرئيسى الأول لتطوير خدمات المواطنين والذى يمكن تلخيصه فى تدعيم مفهوم (الأحقية والمساواة) وتطبيق مبادئ ((لحظة الصدق)) فى تقديم الخدمة. أما المحور الثانى فهو تعديل افتراضات وسلوكيات مقدمى الخدمة، فهناك العديد من الافتراضات السلبية التى يجب العمل على تعديلها او إلغائها من خلال جلسات توعية وتهيئة أو تدريب على رأس العمل أو التعلم بمشاهدة التجارب المحلية والعربية والعالمية والاستفادة من بعض الأماكن التى تمثل نموذجاً من نماذج تقديم الخدمة المدنية الراقية فى مصر وخارجها. ومن هذه الافتراضات السلبية المبيدة للتميز فى أداء خدمة المواطن ما يلى:1- الباب أسرع من الشباك: الافتراض بأن الحصول على الخدمة من الباب الخلفى أسرع من الحصول عليها من الشباك الأمامى.فإن استطعت أن تتسلل أو تتسلق: تتسلل إلى الباب او تتسلق من خلال شخصية معروفة أو كارت واسطة فإن ذلك سيجعلك دائماً فى مقدمة الحاصلين على الخدمة كبديل للوقوف فى الطوابير الممتدة..وتصبح المقولة الشهيرة فى هذا الصدد ((ما تعرفش حد فى إدارة.. كذا)) محل التطبيق.2- المواطن ليس أمامه بديل آخر: قد يشعر المواطن أحياناً أمام تعنت بعض مقدمى الخدمة المدنية التى لا يمكنه أن يحصل عليها إلا من هذا المكان أو من هذا الشخص.. أنه قد وقع فى الاسر وتحول إلى أسير. فالمواطن لا يمكنه الحصول على بطاقة شخصية، بطاقة زراعية، أو غيرها من المستندات الرسمية إلا بالوقوف فى هذا الطابور، فليس لديه بديل آخر. وتتعاظم المشكلة إذا كان هذا هو الإحساس أيضاً لدى مقدم الخدمة الذى تنتابه أحياناً الرغبة فى تأصيل هذا الإحساس لدى مستحق الخدمة بأن يشعره طول الوقت بأنه بالفعل قد وقع فى الاسر وعليه ان يستجيب لكافة طلبات مقدم الخدمة.3- إرضاء الناس غاية لا تدرك: دائماً ما يتردد هذا المثل بين مقدمى الخدمة لتأكيد استحالة الوصول إلى ارضاء المواطن عن خدماتهم، وكذلك كذريعة لعدم السعى للوصول إلى هذا الهدف، فالقاعدة تؤكد أننا لم نصل أبداً إلى هذه النقطة. فعندما ترسخ فى وجدان مقدم الخدمة هذه العقيدة نكون قد وصلنا بالفعل إلى نقطة الانهيار فى أداء الخدمة للمواطنين فجميعنا يعمل وفى ذهنه أنه لن يحقق الرضا الكامل لمتلقى الخدمة مهما فعل، هذا فى الوقت الذى تنادى فيه الشركات والمؤسسات التى تعمل فى مجال الخدمة بمبدأ (لا شكاوى Zero Complaints). من أين جاء هذا المثل؟ لا نعلم.. ومن الذى قاله، ومتى، وما هى المناسبة التى قيل فيها؟ أيضاً لا نعرف.. ولكن كل ما نعرفه أنه تحول إلى شعار لكل الفاشلين فى تقديم خدمة متميزة للمواطن المصرى ولسان حالهم يقول أن رضاء الناس غاية لن نسعى إلى إدراكها.4- الابتسامة المزيفة: الافتراض الرابع الخاطئ هو الدعوة المستمرة من مديرى مقدمى الخدمة بضرورة المعاملة الحسنة لطالب الخدمة واهمية الابتسام فى وجهة واحترامه وإشعاره أننا جميعاً فى خدمته.. بل أن كثيراً من الجهات والمؤسسات اتخذ من شعار (خدمة الشعب) او المواطن شعاراً رئيسياً لها. إن العبرة هنا ليست فى أن يبتسم مقدم الخدمة.. ولكن العبرة فى أن يبتسم متلقى الخدمة، كما أن المنطق يستلزم منا أن نوفر لمقدم الخدمة ما يمكنه مكن تقديم الخدمة، لا أن نطلب منه أن يكون سعيداً مبتهجاً مقبلاً على العمل وهو يعانى فى نفس الوقت من المقعد الذى يجلس عليه أو المكان الذى يعمل فيه أو سياسات التحفيز المقررة فى حالة التميز والتفوق، فإن فاقد الشئ لا يعطيه، فكيف يُطلب من مقدم الخدمة أن يقدم الخدمة ما لم نقدم له نحن كمسئولين خدماتنا بتوفير متطلبات أداء الخدمة.5- على قدر أموالهم: أو بالمعنى الدارج ((على قد فلوسهم)) قد تتردد هذه المقولة أحياناً لتبرير عدم الحماس فى أداء الخدمة باعتبار أن ما يحصل عليه مقدم الخدمة أقل بكثير من الجهود التى يبذلها، وعليه فإن تقاعسه عن أداء الخدمة أو تحايله عليها بتقليل جهوده ((بغلق الشباك قبل موعده، أو ترك مكانه، و الانشغال مع زملائه بالحديث والمزاح، أو التباطؤ فى الحركة والعمل)) جميعها علامات تدل على الضجر والدخول فى مباراة ((إن تدفع أكثر تحصل على جهد أكثر واسرع)). عن هذا الافتراض الخاطئ سينعكس مباشرة على الخدمة المقدمة للمواطن الذى عليه فى هذه الحالة أن يحث مقدم الخدمة على العمل بأساليب عديدة لا ينقصها الذكاء الاجتماعى.. كأن يدعو له بدوام الصحة، أو أن يقدم إليه قلما ليكتب به لمجرد شعوره بان الموظف يبحث عن قلمه (الضائع دائماً) أو أن يشعل له سيجارة للتدخين لعل ذلك يحفزه على مزيد من الإنتاجية. أو أن يجلس صامتاً ((مهذباً)) ويستخدم كلمات ((حضرتك، نعم، أفندم، ولو سمحت)) حتى لا يستفز مقدم الخدمة فيعود إلى الكسل أو التباطؤ مرى أخرى، أو غير ذلك من المناورات المصرية الذكية لطالب الخدمة التى تنتهى عادة بابتسامة لمن يجيد لعبها أو بصياح وضجيج بين مقدم الخدمة ومستحقها لمن لا يجيد مباراة ترويض بعض مقدمى الخدمة من المحبطين دائماً والذى يرفع شعار ((على قدر أموالهم)) فى وجه مستحقى الخدمة.تلك هى أهم الافتراضات السلبية لمقدمى الخدمة والتى يجب العمل على تعديلها حتى نستكمل بذلك المحور الثانى من محاور تطوير أداء الخدمات المدنية الحكومية وضمان وصولها لمستحقيها.أما المحور الثالث.. فهو نشر فكر الخدمة المدنية أو الوظيفية المتميزة بين مقدمى الخدمة وتدعيم السلوك الإيجابى فى أداء الخدمات ومكافآته، وذلك انطلاقاً من الحقائق الأولية لفكر الخدمة المتميزة بأنها حق، وبأننا متساوون فى طلبها وبأنها علم له أصول وقواعد، وبإرساء وترسيخ قواعد هذه الخدمة المتميزة من خلال تبنى مبادئ الخدمة التالية فى سلوكيات الخدمة المدنية:1- المصداقية: بأن يشعر متلقى الخدمة بأن ما يُقال أو يُكتب أو يصل إليه من حقائق هى (صدق)، وأن المعلومات أو البيانات التى تقع بين يديه متكاملة، وأن مصادر الحصول على الخدمة حقيقية، وأن هناك اتساقاً بين ما يُكتب فى الصحافة أو يصدر فى الإعلانات وبين الواقع العملى.2- الوفرة: بأن يشعر المواطن بأن الخدمة التى يحتاج إليها ((متوفرة)) ولا يحتاج للحصول عليها إلى تكبد معاناة البحث والسؤال أو لاسفر والترحال، فالخدمة يجب أن تنتقل إلى مستحقيها لا أن ينتقل هو إليها.. فلماذا لا تُرسل البطاقات الشخصية ورخص المرور، ورخص القيادة وشهادات الميلاد إلى مستحقها؟ ولم لا يحصلون على شهادات الفيش والتشبيه فى مواقعهم؟ ولما لا تصل المعاشات إلى كبار السن فى منازلهم؟. إن ظاهرة الطوابير المصرية ترجع أساساً إلى عدم وفرة الخدمات ((قلة شبابيك الخدمة)) كما فى مطار القاهرة، والاعتماد على شخص واحد لتوقيع كل المعاملات كما فى مكاتب الشهر العقارى، وغموض الإعلانات وعدم منطقيتها كما فى الأسواق الحرة عندما تعلن عن التقسيط فى كافة فروعها.. إلا أن الحقيقة غير ذلك، وعلى المشترى ان يتجه إلى المركز الرئيسى ليستعلم ويستفسر، أو التقاليد الإدارية القديمة كما فى إعلان ((مشيخة الأزهر)) عن قبول زكاة المال دون أن يكون لها رقم حساب وتطلب من المتبرع أن يذهب إليها وتعده بأنه سيحصل على الإيصال الدال على التبرع.. وجهات أخرى تعلن عن تقديم خدماتها ولكنها تطلب من صاحب الحق أن يستعلم بالذهاب إليها دون الإعلان حتى عن خط تليفون لها أو موقع على شبكة الإنترنت يسهل للمواطن الحصول على الخدمة.3- التبسيط: عن السؤال الذهبى الذى يساعد على تبسيط الخدمات هو (لماذا؟) لماذا كل هذه الإجراءات، الخطوات، الأوراق؟ وإن كانت مطلوبة منذ زمن فلماذا مازالت مطلوبة دون تغيير؟ ولماذا هذه التوقيعات وهذه الاعتمادات؟ وهل مازلنا ندير بعض خدماتنا وفكرنا قائم على أن المواطن متهم بالأساس ((بالتزوير والتلاعب)) لذلك علينا أن ندخله فى حلقة جهنمية أحياناً قد تدخلنا هى الأخرى فى حلقة ((ودنك منين يا جحا))؟ ولماذا كل هذه الحلقات الوسيطة فى أداء الخدمة؟. إن من المبادئ الهامة فى تبسيط أداء الخدمة لمستحقيها هى إشراك المواطن فى إنجازها تماماً كما تفعل الفنادق مع نزلائها، فلقد أصبح النزيل فى حقيقة الأمر –دون أن يغضب أو يشعر- موظفاً فى الفندق يقوم بكى ملابسه، تلميع حذائه، يعرف حسابه ويسدده ببطاقة الائتمان، يحفظ أشياءه الثمينة بخزينة غرفته وهو مسئول عنها، يطفئ الكهرباء قبل مغادرة الغرفة، يعد لنفسه القهوة والشاى.. كل ذلك بعيداً عن عمالة الفندق وفى داخل غرفته.. كيف يمكننا نحن أن نستعير هذه التجربة بأن نشرك المواطن فى أداء الخدمة التى يحتاج إلهيا؟ وقد يساعدنا فى ذلك التطور التكنولوجى الحادث الآن بأن نجعله يسدد كافة الالتزامات المالية المطلوبة منه، وكذلك يرسل مستنداته أو يقبلها عن طريق ((الإنترنت)) أو بطاقات الائتمان. إن الذى يدفعنا لكل ذلك هو محاولتنا للإجابة على السؤال الذهبى (لماذا) ومحاولة الإجابة أيضاً على سؤال آخر حيوى وهو (لماذا الانتظار؟) لماذا ينتظر المواطن حتى تتحقق الخدمة.. ومحاولة علاج أسباب هذا الانتظار والتخلص منه، وإن كانت هناك أسباب منطقية لا فرار منها، فهل يعلم المواطن هذه الأسباب أم فقط نخبره بكلمة واحدة (انتظر).المحور الرابع والأخير.. فى تطوير الخدمة المدنية هو تدريب وتنمية شاغلى مواقع الاتصال المباشر بالمواطنين –أو من نطلق عليها خط المواجهة الأول- وذلك من خلال برامج ودورات تدريبية متخصصة فى فنون الخدمة ومهارات التعامل وخصائص الريادة فى الخدمة المدنية.. وكل ما تتضمنه هذه الخصائص من أن تصبح خدمة المواطن هى الترجمة الحقيقية لرفع المعاناة عن محدودى الدخل أو المواطن المصرى البسيط أو على الأقل الخطوة الأولى المنطقية.إن تطبيق المفاهيم والمحاور السابقة للخدمة هى أشبه بالأقراص الفوارة التى سرعان ما يتضح أثرها ومفعولها كبديل لبعض المسكنات التى قد تصيب معدة المواطن بالقرحة المزمنة من فرط تعاطيها.. فلا هى عالجت الداء ولا هى قدمت الدواء..
خدمة المواطن لحظة الصدق الضائعة ،
الخميس، ٢٩ مايو ٢٠٠٨
Thank you for visited me, Have a question ? Contact on : youremail@gmail.com.
Please leave your comment below. Thank you and hope you enjoyed...
Please leave your comment below. Thank you and hope you enjoyed...
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 comments:
إرسال تعليق