
قيم الحياة تختلف باختلاف الشعوب.. ومعانى الأشياء تتنوع بتنوع مفردات قاموس كل منا، فالطمع أحياناً يعتبره البعض حقاً مشروعاً والحرية يفسرها آخرون على أنها مرادفة للبلطجة والانحراف، وحق الحديث والتعبير عن الرأى قد يكون بالنسبة للقلة فرصة قذف وسب علنى، ونشر الأفكار الصفراء والسوداء والحمراء، ولا يسرى هذا فقط على المصطلحات الفنية المتخصصة بل ينطبق أيضاً على مفردات الحياة اليومية، فكلمة (عيش) فى مصر معناه خبز ونفس الكلمة (عايشى) فى تونس معناها شكراً، والعافية عندنا معناها الصحة وفى المغرب تعنى (جهنم) ومعنى (تخت) فى لغة أهل الشام سرير وعندنا تعنى فرقة المغنى والطرب الشرقى الأصيل، والمجزرة تعنى محل بيع لحوم وفى دول الخليج يطلقون عليها الملحمة، وكلمة (مختبر) تعنى ورشة عمل وفى اليمن تعنى معملاً للتحليل الطبى، والزلط عندهم معناه النقود وكلمة (ماشى) عندنا عنى عندهم (لا شئ)، والبطيخ فى تونس هو الشمام عندنا، وغير ذلك من مفردات الحياة التى يختلف عليها. ويذكرنى ذلك عندما أقلعت إلى دولة الجزائر للمرة الأولى وأدرت أن استفسر من مضيفة الطائرة عن فرق التوقيت بين الدولتين فقالت (كيف.. كيف). فأعدت عليها السؤال ظناً منى أنها لم تفهم ما أعنيه فأعادت هى الاجابة بنفس التأكيد (كيف.. كيف). وعندئذ تدخل المسافر بجوارى قائلاً (نفس التوقيت) ويذكرنى اختلاف قاموس مفرداتنا العربية أيضاً بالمحاضرة التى ألقاهاالأستاذ الدكتور سيد الهوارى عالم الإدارة المعروف فى مجموعة من المديرين العرب والتى ما أن انتهت حتى سارعت بسؤال أحدهم وهو دارس جزائرى عن رأيه فى المحاضرة فقال ممتازة ولكن لماذا يكثر الأستاذ من الاعتذار، لقد استمعت إليه وهو يكرر مراراً كلمة Pardon، واندهشت واستفسرت منه عن مقصده فلقد فات عليه وعلينا أن كلمة (برضه) وهى اللزمة التى عرف بها أستاذنا فى أحاديثه ومحاضراته، وتشبه فى مخارج حروفها كلمة Pardon وفات علينا أيضاً أن لغته الفرنسية أقرب إلى قلبه ولسانه من العربية، المهم أن المحاضرة ضاعت وضاع المتدرب الذى ظل طوال المحاضرة يبحث عن سبب مقنع يفسر له معنى اعتذار الأستاذ عن أشياء لم تحدث. وهكذا تختلف معانى المفردات البسيطة وكذلك تختلف قيم الحياة إلى حد أنك قد تفقد علاقتك مع صديق عربى لأنك لم تفهم ما يقصده.. وإن فقدته فلن تسترده إن كان الخطأ (عربياً) أو بالأحرى (بدوياً) فلا يمكنك مثلاً أن ترد دعوة على عشاء أو غذاء طالماً أنها كانت على شرفك وكنت المدعو الرئيسى لها حتى وإن لم يؤخذ رأيك فى موعدها أو كانت ظروفك أو أحوالك لا تسمح بذلك أو كنت قد ارتبطت بالفعل بمناسبة أخرى فى نفس الموعد لان اعتذارك يفسر عندئذ على أنه إهانة وتجريح قد ينتهى عملياً بقطع العلاقة أو توترها، إن هذه الاختلافات على بساطتها هى نفس الخلافات والاختلافات فى القيم بين الشعوب والحضارات. فمعنى الحرية والكرم يختلف من دين لآخر ومن جنس لآخر ومن جماعة لأخرى وتتراوح رؤيتها للمرأة من النقاب والخمار وعدم شرعية المشاهدة والملامسة إلى بيع الأبناء والاجسام والأنساب، فلكل دولة ودين ومدينة وقرية تقاليدها وأعرافها وثقافتها، بل لكل أسرة إطارها من القيم والتقاليد. فهناك ثقافات تقدر الصم والسكون وأخرى تحترم الكلام وثالثة تقوم على حركة الجسد ورابعة تبجل الجمود والثبات ولكل منها معنى ومغزى. أهل فرنسا يعشقون جلسات الطعام ليتذوقوا فيها الأنواع المختلفة من الجبن والنبيذ.. وأهل الصين يعتبرون الطعام بمثابة النعمة المقدسة من الإله، وأهل أمريكا يفضلون تناول طعامهم سريعاً خفيفاً من الوضع واقفاً وإن أمكن فى الخلاء، ونحن نفضله دائماً ثقيلاً دسماً متنوعاً نأكله دفعة واحدة وبسرعة خاطفة ونبقى بعدها بلا حراك. إن العالم فى مجمله يغلب عليه ثقافات وقيم ثلاث تحكم أفعاله وتحكم كذلك مصالحه واهتماماته ودرجة تجانس أو تباعد أطراف الصراع. إن ما يحدث الآن من فوضى عالمية ليس بسبب صراع الحضارات بقدر ما هو بسبب احتدام الخلاف حول منهجية التفكير ونوع إطار القيم الذى يحتويه قاموس كل حضارة أو ثقافة. فلن يحكم النقود والثراء من كانوا يبتغون الدار الآخرة، ولن تجدى الصلوات والدعوات من كان يبغى الدنيا.. وإلا فما هو تفسير الإنتحار والشهادة والفدائية أو الموت عمداً وجميعها صور من توقف الحياة الدنيوية بغية تحقيق هدف أو كسب قيمة أو إعلاء قضية، أو حل لمشكلة. والثقافات الثلاث التى تدفعنا لكل ذلك هى: ثقافة السبب والنتيجة: إن لكل نتيجة سبب فلا يوجد شئ قد يخلق عبثاً وانه ما من حدث إلا وله أسبابه وما من سلوك إلا ووراءه دافع، فإذا تمكنت من دراسة أسباب السلوك تمكنت من توقع النتائج مسبقاً تماماً كما كنا نسمع دائماً نصيحى الوالدين فى الصغر (إن تذاكر تنجح) و (من جد وجد) أو كما قال سيد درويس فى أحد أعماله (علشان نعلا ونعلا ونعلا لازم نطاطى نطاطى نطاطى) أو (الميه ما تجريش فى العالى) وغيرها من علاقات السبب والنتيجة أو ما يفضل الغرب أن يطلق عليها دائماً (العلاقة الخطية) Linear Actives تلك العلاقة التى يميل أصحابها إلى استخدام أساليب التخطيط، الجدولة، التنظيم، إعداد خطط العمل. وتأتى فى مقدمة شعوب هذه الثقافة الشعب الألمانى والسويسرى ولعل ذلك يفسر لنا أن (أبو البيروقراطية ماكس ويبر) ألمانى الجنسية وكان يعمل عالماً للاجتماع التحق ضابطاً بالجيش الألمانى وابهره التنظيم العسكرى وتمنى تطبيق مبادئ الإدارة العسكرية على الحياة المدنية فجاءت نظريته (البيروقراطية) والتى تسعى ببساطة إلى (تطابق الواقع من المتوقع) عن طريق وحدة الأمر والإجراءات والروتين، كما أن صناعة الساعات المتقدمة والاهتمام بالزمن لدى السويسريين يكاد يعكس قمة التخطيط والزمن والوقت كثقافة سائدة لدى هذه الشعوب، ويندرج فى هذه الثقافة أيضاً أمريكا التى يعد تأخر برنامج تليفزيونى بها (عاراً وطنياً) والذين من فرط اهتمامهم بتطابق الواقع مع المتوقع صارت كل صور الحياة بها مبرمجة ومخططة ومتوقعة من هدايا أعياد الميلاد وبابا نويل وحفلات الهلوين إلى درجة أفزعت متعة فض غلاف البريد من حتواها، وقد تفقد المرء أحياناً مباهج المفاجئات اليومية البسيطة والتى أجهضتها أنباء جرثومة الجمرة الخبيثة، تلك الحالة التى عبر عنها الكاتب الأمريكى الشهير كولون ويلس فى كتابه (المجتمع الأمريكى عارياً) وأيدها (هربرت ماركوز) فى كتابه الحب والحضارة بأنها نصف حياة مع غياب النصف الآخر، حياة فقط للنصف الذى يستجيب لما يدور حوله ولا يستطيع رفضه، يستجيب لكل التغيرات الحضارية التى تحدث حوله دون ان يكون له حق منعها. إن رؤية الكتاب الأمريكيين الأوائل والمعاصرين وعلى رأسهم الفين توفللر لطبيعة القيم السائدة فى المجتمع الأمريكى تتأكد وتزداد بعدما أقر الرئيس بوش التعديل الأخير فى قانون الحريات والذى يسمح لأجهزة الأمن بالتنعت والاحتجاز والترحيل دون محاكمة لم يشكلون مصدراً للتهديد وتتأكد أيضاً بعدما أعلن مؤخراً عن ان انتشار الجمرة الخبيثة قد يكون وراءه تنظيم داخلى فى أمريكا نفسها، وليس تنظيماً خارجياً، إن عقلية (السبب والنتيجة) المعتمدة دائماً على التخطيط والتنبؤ هى ذات العقلية التى لم تستطع التنبؤ أو التوقع بما حدث، ويرجع ذلك إلى أنها عقلية تقوم على استقراء السوالف والسوابق واستقراء الماضى للتنبؤ بالمستقبل لذا استبعدت أن يكون الفاعل أمريكياً واستبعدت الوسائل بأن تستخدم الطائرة المدنية والبريد واستبعدت كذلك رفض التحالف معها عسكرياً فى حملتها ضد الإرهاب. إن ثقافة السبب والنتيجة هى ثقافة إسرائيل أيضاً والتى أحياناً ما تفشل فى تفسير أن النتائج أحياناً لا تاتى متوافقة مع الأسباب فكيف لا تنجح الدبابات والطائرات فى قمع أطفال الحجارة وكيف لا توقف الاغتيالات باقى المسئولين عن التحرك والتصريح باستمرار الكفاح وهو نفس ما حدث عندما لم تجدى الملايين الخمسة فى أن يتطوع أحد المقربين من المطلوب حياً أو ميتاً للإدلاء ببيانات عنه أو تسليمه وهى ذات القيم التى سلمت بها إسرائيل قبل حرب أكتوبر فاستبعدت عبور الجيش المصرى لخط بارليف (المنيع) على حد قولهم، فالخط المانع كان فكرياً وفنسياً قبل أن يكون ركام وقضبان وحديد. إن قيم وعقلية (السبب والنتيجة) والواقع والمتوقع كانت دائماً وراء تطبيق واحد من أهم مبادئ الإدارة الأمريكية وهو ما يطلق عليه قانون مورفى Murhphy’s Law وهذا القانون الذى اكتشفه أحد المهندسين الأمريكيين الذين يعملون فى السلاح الجوى الأمريكى ومجمل (أنه إذا كان هناك شئ خطأ سيقع فسيقع) ومعنى ذلك أن هناك أموراً ستحدث مهما اتخذت من آليات حذر وحيطة وانتباه، ومهما تعلمنا من تجارب الماضى. يطلقون عليه بلغتهم خطأ Wrong ونطلق عليه نحن بلغتنا (القدر) أو القدرة الإلهية. فالإنسان مسير فيما يحدث له من رزق وحياة وموت وهدى وضلال، فالله يهدى من يشاء ويضل من يشاء. أما الثقافة الثانية فهى ثقافة تعدد الأفعال Multi Actives وتعنى ثقافات الشعوب.. التى تقدر الأشياء وترتب أولوياتها لا حسب جداول زمنية مسبقة ولكن حسب درجة أثارتها وحيويتها.. تماماً كما تفعل شعوب أمريكا اللاتينية وشعوب المنطقية العربية فنحن نستطيع أن نتحدث جميعاً فى وقت واحد وأن نستمع بعضنا البعض رغم وجود الصخب والصراخ وأن يتقاطر المدعوون إلى مكان الاجتماع او الاحتفال العائلى، فمنا من يصل قبل اللقاء ومنا من يصل فى بدايته أو أثنائه أو فى نهايته. فالوقت ممتد والعبرة فى (اللمة) وبأن نقضى معاً وقتاً لطيفاً وليست العبرة بالتواجد فى الموعد المحدد حتى لو كان على مائدة شهر رمضان، بل من النوادر التى تتردد أحياناً قبول بعض الشخصيات شديدة الانشغال بالاشتراك فى أكثر من اجتماع لمجلس إدارة شركتين رغم انعقادهما فى نفس الوقت، أو اتفاق محاضر على إلقاء محاضرتين فى نفس الوقت، أو اتفاق محاضر على إلقاء محاضرتين فى نفس الوقت، وليس هناك من ضرر من إلقاء نصف المحاضرة الأولى ثم الهرولة للحاق بالمحاضرة الثانية قبل أن ينتهى الموعد المخصص لها. إن الثقافات متعددة الأفعال هى التى قد تفسر لنا هذا التباين الواضح فى المواقف العربية تجاه القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتفسر لنا أيضاً سبب فشل الدول العربية فى أن تحقق سوقاً عربية مشتركة، أو عملة عربية موحدة، أو بورصة أوراق مالية واحدة أو لغة مالية وإدارية مشتركة، فالتدريب معناه التربص فى دول المغرب والإدارة المحلية معناها الجهوية والكادر معناه الحمار فى دول المغرب. وقد يفسر لنا ذلك أيضاً تلك المتعة الكلامية الزائفة التى يشعر بها المتحدث أو الضيف وهو يتلمس مجالات التباين والاختلاف مع الطرف الآخر والاصطياد فى مياه الإعلام العربى الراكدة ليؤكد أن الخطاب الإعلامى العربى مازال موجهاً للداخل أكثر من كونه موجهاً للخراج. كما أن المؤتمرات خير دليل على مفهوم تعدد الأفعال بين أعضاء المؤتمر فأدوار البعض أصبحت ثابتة ومكررة فى كل حدث وحديث، حتى أصبح التباين فى رد الفعل جزءاً من حرفية صناعة المؤتمرات، فهناك من يهوى التحدث وهناك من يهوى التأمل وهناك من يصيح مطالباً بالالتزام بالوقت والجدول وهناك من يسعى جاهداً للحصول على التوصيات على أن تكون داخل حقيبة فاخرة حتى تزداد دلالتها وفاعليتها. أين هو الموقف العربى الموحد باتجاه ما يحدث فى أمريكا وأين هو الخطاب الإعلامى العربى الشامل للتندييد بالإرهاب. أما الثقافة الثالثة فهى ثقافة ردود الأفعال Reactive والتى تنطبق على أهلى الصين واليابان والذين يثمنون الضيافة والأخلاق والإنصات والهدوء والحياة الاجتماعية والأسرة ولا يتكلمون قبل أن يفهموا ولا يسارعون بالفهم قبل أن ينصتوا. خلاصة القول إن لكل منا ثقافته التى تربى عليها ولا يمنع ذلك من أن تجتمع الثقافات الثلاث فى شخص واحد إلا أنه فى الغالب الأعم قد يرى الناس يثقافته التى يصعب عليه تعديلها للاقتراب من الآخرين فهل منا من يمتلك شجاعة تطبيق عادات الإسكيمو فى الترحيب بضيوفه عندما يحل الظلام، أو يأكل أهل الفلبين المش والفسيخ بعد أن يتطلعوا إليه أو تنفذ إليهم رائحته، إن الثقافة والقيم هى أشبه بالشعر الذى تعبر حالته عن حالتنا الصحية ومهما قمنا بصباغته فإن لونه الأصلى الطبيعى سيعود إلينا حتى ولو لم نكن نحبه أو نفضله. وسيقى السؤال دائماً.. كيف نتعامل مع ثقافتنا باعتبارها أصلاً؟ وكيف نتخلص من الأقنعة الثقافية التى تُفرض علينا قبل أن نفقد القدرة على التمييز بين الأصل والقناع؟ أو نتصور خطأً.. أن لمعان الأظافر وجمالها دليل قاطع على سلامة القلب وأوردته
Thank you for visited me, Have a question ? Contact on : youremail@gmail.com.
Please leave your comment below. Thank you and hope you enjoyed...
0 comments:
إرسال تعليق