sawah online blog official website | Members area : Register | Sign in

>

الشاعر احمد قرة

Save 71% on a 8.75x11 Hardcover Photobook
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فنون السرد. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فنون السرد. إظهار كافة الرسائل

ارنست هيمنجواى وشعاع الاجراس

الاثنين، ٧ فبراير ٢٠١١

من بندقية صيد رافقته في أجمل رحلات عمره، وذات يوم من العام 1961، أطلق الكاتب الأميركي ارنست همنغواي النار على رأسه ووضع حداً لحياته كي لا يتسنّى "لشيخ الرواية" ان يعيش تجربة بطله "شيخ البحر" في مصارعته للوجود بكل ما بقي فيه من قوة، فرحل عن 62 عاماً و25 كتاباً موزعاً بين الرواية والقصة القصيرة: "وداعاً أيها السلاح"، "الشمس تشرق أيضاً"، "الذين يملكون والذين لا يملكون"، "وليمة متنقلة"، "لمن تُقرع الأجراس" و"الشيخ والبحر"... وغيرها من الأعمال التي كتبها من وحي تجاربه الشخصية وتركت بصمتها على الأدب الأميركي الذي صار همنغواي واحداً من أعمدته...
وتصادف هذا العام الذكرى الستون لرحيله ويتذكر الأميركيون كما كل قرائه في العالم مسيرة هذا الرجل الذي كتب من ألم وكتب عن أبطال وشخصيات يتحمّلون المصاعب والآلام في تجارب حياتية قاسية دوّنها في روايات خالدة.
كيف عاش همنغواي؟ ومن أين ولد أبطاله؟ لماذا انتحر بعد ان كان طوال حياته يلوم والده على انتحاره؟ كيف شغل هذا الكاتب النجم الصحافة الأميركية والعالمية في يومياته؟ وكيف طغت صورته المحببة على غلافات المجلات ليكسب شعبية اضافية بجمالية اطلالته المغايرة: اللحية البيضاء الطويلة وقبعات الصيد والسمرة التي كان يكتسبها من رحلاته ومغامراته في الطبيعة؟ وأجراس همنغواي التي قرعها في حياته لم تسكت، وبعد رحيله وكان يحتفظ بمخطوطات كثيرة، بدأ نشرها تباعاً وما بين 1964 و1999 قرأ العالم من أعمال همنغواي: "باريس عيد" و"جزر على وشك الانجراف"، "ومغامرات نيك آدامز" و"حديقة عدن" و"الساخن والبارد" و"الحقيقة على ضوء الفجر"... وكأن همنغواي لم يرحل، وكأنه اختبأ من ظلم الحياة وقسوة المرض وراح يرسل من مكانه الخفي أوراقه تباعاً، تلك الأوراق المكتوبة بالدم والدمع وليس أقل. فالروائي همنغواي وإن أبصر النور وسط عائلة ميسورة ومن والدين مثقفين دعماه للوصول الى ما هو عليه، إلا انه عرف في كل فصول حياته المآسي والصعاب والآلام الجسدية والنفسية. لم يكتب همنغواي سوى الصعب والدامي ولم يختر من تجاربه سوى الشديد الألم ليقول احساسه بالحياة. لكنه من ناحية ثانية، عرف كيف يستفيد من عذاباته وكيف يوظفه ايجاباً، فهو كتب ذات يوم: "أفضل ما يمكن ان يحصل لكاتب هو ان تكون طفولته على شيء من التعاسة، وكلما ازداد البؤس والحزن والفقر والقلق والألم، ظهرت الى العلم موهبته في التعبير عن كل ما يختلج في الروح وكل ما يطل من الذاكرة".
لم تكن ولادة ارنست الصغير عادية، فذاك المولود الجميل الذي أبصر النور في 21 تموز من العام 1899 في منطقة أواك بارك في شيكاغو أضفى سعادة على العائلة التي استقبلت الابن البكر بحفاوة وسيكون له بعد سنوات أربع شقيقات وأخ صغير: الأم وتدعى غرايس هال مطربة أوبرالية كانت تشارك في حفلات محلية في المنطقة ووالده كلارنس همنغواي كان طبيب أسنان، غير انه كان يهوى الصيد والرحلات في الطبيعة، فبدأ ابنه ارنست يرافقه قبل العاشرة، واشترى له بندقية في العاشرة. أما هذه الرحلات فالحديث عنها لأنها ستكون ذات صلة وثيقة بكل ما سيكتبه همنغواي، وفي الطبيعة ستتفتح أفكاره المذهلة، وسيكتب ويعيش فترات طويلة من حياته في الغابات أو قرب شاطئ البحر، وسيكتب من وحي رحلات الصيد البحرية المذهلة التي سيختبرها بقوة وشغف في رائعته "الشيخ والبحر" والتي ستكون الحافز الأول والمباشر لجعل لجنة نوبل تكرّمه بجائزة "نوبل للآداب" عام 1954.
محرر
منذ سن المراهقة حلم ارنست بأن يصبح كاتباً فلم يدخل الجامعة بحجة ان سنوات طويلة للدراسة ستفصله عن التفرغ للكتابة، فعمل منذ العام 1917 وكان في الثامنة عشرة محرراً في "كانساس سيتي ستار" وفي نفس الوقت سحرته فكرة ان ينجح في الحياة العسكرية وكان ذلك بأثر من دخول الولايات المتحدة الأميركية الحرب العالمية الأولى وفي مذكرات لاحقة يتذكر ارنست هذه المرحلة ويشرحها ويحللها بنفسه معتبراً انه كان بصدد البحث عن مهنة معينة "خاصة بالرجال" ليثبت رجوليته ونضجه بسبب سوء تربية والدته له التي كانت ترغب في تحويله الى "فتاة دمية" في طفولته بسبب جمال وجهه، فكانت تترك شعره يطول كالفتيات وهذا واضح في صوره من تلك المرحلة وتجعله يرتدي الفساتين وتقول لصديقاتها وأقربائها: "ألم يكن من الأفضل لو ولد بنتاً؟" هذا الأمر استمر حتى بلغ سناً تجعله يرفض ويثور، وهو كتب عن والدته وعن تلك المرحلة معتبراً انها كانت امرأة هستيرية وأنانية.
غير ان رغبته في دخول الجيش لم تتحقق بسبب رسوبه في الفحص الطبي فهو كان يعاني قصر النظر بشدة وكان يرفض وضع نظارتين، وهذا السبب وكتبه في مذكراته أيضاً أي قصر النظر جعله أيضاً يتخلى عن الدراسة الجامعية، فهو كان عاجزاً عن متابعة الدروس والشرح على اللوح البعيد، فاكتفى بالكتاب والمطالعة عن قرب. لكن كل هذا لم يمنعه من الالتحاق بكتيبة سيارات الإسعاف في الجيش وبعد ثلاثة أسابيع من العمل أصيب بجروح اثر انفجار قنبلة بالقرب منه في ايطاليا وكان ذلك في العام 1918 فقضى ستة أشهر في المستشفى ومع عودته الى بلدته استُقبل كالأبطال خاصة بعد ان عرف الجميع انه أصيب بسبب إصراره على إنقاذ جرحى في الحرب. لكن رجوعه لم يلبث ان جعله يدخل مجدداً في أحزان كبيرة حين مرض والده ثم انتحر، فالقى كل اللوم على والدته وحملها مسؤولية انتحار والده.
القطيعة
وهنا بدأت القطيعة مع مرحلة الطفولة والمراهقة في حياة همنغواي حيث قرر الابتعاد والبدء بحياة جديدة بدأت معها الكتابة.
باريس والكتابة: "الشمس تشرق أيضاً. ومع وصوله الى باريس عام 1920 "، وكان همنغواي قد تزوج بامرأة تدعى هادلي ريتشاردسون وكانت تكبره بأكثر من ثمانية أعوام، فانطلق من شقتهما الصغيرة في العاصمة الفرنسية الى اكتشاف عالم الأدب والثقافة، وفي باريس التقى جيرترود ستاين وإزرا باوند وسكوت فيتزجيرالد وشرود أندرسون وغيرهم من الكتّاب الأميركيين المقيمين في فرنسا، فصار جزءاً من مجموعة المغتربين في العشرينيات التي أسستها جيرترود ستاين وعرفت باسم "الجيل الضائع"، ولقي من بعضهم المساعدة لنشر أول أعماله وكانت المجموعة القصصية "في زمننا" التي نشرت في أميركا عام 1925 وبعدها رائعته "الشمس تسطع أيضاً" عام 1926 وهي الرواية التي جعلته يبرز كواحدٍ من الروائيين المتميزين الشباب مع انها وحسب رأي النقّاد امتازت ببساطة متناهية وبالخلو من التعقيد، وجاءت بأحداثها لتبدو مفرطة في الواقعية وقد عالج فيها موضوع الاحتفالات السنوية التي تجري سنوياً في اسبانيا في مجال مصارعة الثيران، وقد حلل نقطة دقيقة وحساسة في الموضوع وهي انه لا بد دائماً من قتيل في هذه المصارعة: الثور أم المصارع؟
وقد اعتبر عدد كبير من النقّاد ان الرواية جاءت في غاية الحساسية بسبب شغف همنغواي بفكرة الموت في تلك المرحلة كما شغفه بفكرة اثبات رجوليته عبر بطليه اللذين يتحادثان عبر كل فصول الرواية حول الحب والمرأة والجسد والجنس، فصنّف الكتاب أيضاً في خانة "الأدب البعيد عن الأخلاقيات" وذهب البعض في اتجاه معاكس الى اعتباره "أبرز رواية تصوّر حياة جيل الشباب الضائع في تلك المرحلة".
"وداعاً أيها السلاح"
نجاح روايته الأولى أعطاه دعماً معنوياً للكتابة من جديد، فاستمرت كتبه بالتألق خاصة مجموعات القصص القصيرة التي أطلقها في السنوات 1927 و1928 ووضع فيها تقنية السرد الصحافية الى حد ما واتصفت بالوصف المباشر، الى ان ظهرت رواية "وداعاً أيها السلاح" واعتبرت من أفضل الروايات التي كتبت في تلك المرحلة ضد الحرب.
وتدور أحداثها حول بطله الشاب فريديريك هنري الذي أدرك من خلال الحب حماقة المشاركة بالحرب وما ينتج عنها من دمار نفسي وخارجي محاولاً تحقيق سلامه الداخلي خارج الخضوع التقليدي للظروف والواقع.
واعتبرت "وداعاً أيها السلاح" من أبرز الأعمال التي سمحت بالمرور الى الرواية المعاصرة عبر كل ما قدمته من أفكار حول التأثير السلبي والعالمي للحروب والشرور الذي لا مفر لنا منه جميعنا وكيف انه هناك دائماً أحدهم ليدفع ثمن الشجاعة والحب والاحساس الإنساني العميق.
وتماماً كما جذبت الحرب العالمية الأولى همنغواي لأن ينخرط في صفوف المقاتلين، حدث كذلك حين قرر العمل كمراسل حرب في اسبانيا خلال الحرب الأهلية فيها وكذلك على جبهة الحرب العالمية الثانية، حيث كان يراسل مجلات عديدة. وثمة موضوع جديد بدأ يشغله في تلك الآونة وقد وصفه في مجمل أعماله وهو حول كيفية الحفاظ على موهبته ككاتب في مواجهة كل تهديدات الحياة في الحروب كذلك التهديدات من نوع آخر والتي تولدها الحرب أيضاً مثل ضياع القيم والثوابت في المجتمعات وأيضاً السعي وراء المال والنجاح والشهرة كتعويض عن نواقص كثيرة في الأزمات. كل هذا وضعه في روايته التالية وكان عنوانها: "ثلوج كليمانجارو" التي نشرها عام 1936، ومن بعدها رواية "لمن تُقرع الأجراس" عام 1940 وقد وضع فيها كل هذه الأفكار التي تبنّاها وتبدو فيها أجواء الريف الاسباني وأهله الذين وصفهم وصفاً دقيقاً ومؤثراً في ذلك الكتاب.
الشيخ والبحر
من "لمن تُقرع الأجراس" الى "الشيخ والبحر" ولكن ما بين روايته "لمن تُقرع الأجراس" وأجوائها الريفية وروايته "الشيخ والبحر" 1952 التي تعتبر ملحمة بحرية بامتياز أو بتعبير آخر من الأعمال الأدبية التي وصفت عالم البحر ومجّدته عبر غوص في أعماقه وأسراره الغامضة، ثمة تغيير حدث في حياة همنغواي الذين غاص شيئاً فشيئاً في حياة بوهيمية، وصار البحر الواسع مشهداً مؤثراً في يومياته حيث كان يمضي نهاراته في هواية الصيد التي لم تكن فقط محدودة في معانيها وأهدافها.
فلم يكن الصيد في حياة همنغواي لمجرد الحصول على نتيجة وافرة من أسماك ولا لمتعة الهواية لتمضية الوقت، بل كانت في رمزيتها ذاك الغوص اليومي والمتكرر في مجاهل البحار والحياة وكأنه يبحث عن مجهول في ذاك المشهد البحري الهائل الذي صوّره عبر شخصيته الروائية، ذاك الشيخ العجوز في صراعه مع البحر. فقد صورت رواية "الشيخ والبحر" البعد الآخر للقوة الجسدية والنفسية للإنسان في صراعه للبقاء عبر شخصية العجوز الذي يتحدى قوة الطبيعة في صراعه أيضاً مع السمكة الضخمة التي اصطادها ذات يوم. غير ان صراعه يتسم بالوحدة والعزلة حيث عاشهما وحيداً، لا عون له في مواجهة شرسة بقوة حب البقاء. وبطله الشيخ ويدعى سانتياغو عاش يأساً كبيراً بعد ان أمضى شهوراً عدة يصطاد من دون ان يحصل على نتيجة، وتحديداً 84 يوماً، وفي اليوم الخامس والثمانين، اصطاد سمكة ضخمة بقي يصارعها لمدة يومين ليلاً ونهاراً، متحدياً التعب والجوع وعدم النوم والألم الناتج عن الجروح التي تعرض لها في معركته الأقرب الى الأسطورية، ليواجه في مرحلة ثانية وبعد ان اصطاد سمكته، أسماك القرش المفترسة التي هاجمته في طريق عودته الى منزله البحري على الشاطئ، فقد عاد أخيراً لكنه عاد مع ما بقي من صيده: حسكة ورأس سمكة مهمش.
"الشيخ والبحر" اعتبرها العالم بمثابة الملحمة الإنسانية التي رمزت بقوة وجمالية فائقتين الى حياة الإنسان وسعيه في مصارعة القوى المحيطة به بإرادة صلبة وشجاعة لا مثيل لها ليصل أخيراً خاوي اليدين في مواجهة الواقع المرير. ولقد أجمع النقّاد أيضاً على ان هذه الرواية البحرية بامتياز هي صورة طبق الأصل عن واقع حياة الكاتب في الفصل الأخير من حياته حين عاش لفترة طويلة ملازماً للبحر، وليس سانتياغو سوى صورة عنه بعد ان عاش حياته يصارع ويتحدى الأقدار حتى وصل الى مرحلة فقد فيها قواه الجسدية والروحية في آنٍ. لكن روايته هذه لم تكن مقفلة على اليأس بل وضعها في إطار الأمل عبر شخصية الولد الصغير والصديق للعجوز والمعجب به التي استمر يرافقه في رحلاته وكأنه صورة عن الأمل والحياة المتجددة، كما ان الشيخ وبعد تجربته هذه، عاود النزول بمركبه الى البحر للصيد ولاختبار المجهول ثانية. هذا الصراع الرائع للإنسانية الذي صوره همنغواي في "الشيخ والبحر" كرسّته "جائزة نوبل للآداب" واحداً من الروائع الأدبية الخالدة.
ولقد لقّب همنغواي بعدد من الألقاب كان أبرزها "بابا" أي الأب الروحي والفعلي للرواية الحديثة والمعاصرة التي ستعرف منذ تلك المرحلة، أي منتصف الخمسينيات من القرن العشرين،التمرد والانطلاق والتجدد. واذا غلبت النظرة السوداوية للعالم في كتاباته الأولى فهو تفاعل وتجدد في مراحل متفرقة من حياته الأدبية وعمل عبر رواياته الأخيرة على تمجيد القوة النفسية وقوة العقل لدى الانسان، فصور هذه القوة في تحدياتها لقوى الطبيعة في صراعات متنوعة. ولقد عكست مؤلفات همنغواي أيضاً تجاربه الشخصية، فهو عاش وشارك في الحربين العالميتين الأولى والثانية كما الحرب الأهلية في اسبانيا، فأصيب في المعارك وراقب من كثب آلام الآخرين فكتب عن أبطال يتحملون المصاعب والآلام من دون شكوى وتعكس هذه الشخصيات طبيعته الشخصية. أما أسلوب همنغواي الذي وصف معظم النقاد بالسهل والواضح والعفوي وقد كان متقناً نتيجة ممارسته الطويلة للكتابة الصحافية حيث أفادته كتابة التقارير وحتى السياسي منها في تقصي الحقائق من حول الأحداث التي يعيشها، ولعل أفضل وصف لأسلوبه في الكتابة هو ما وضعه بنفسه، فقد صرح ذات يوم بأنه يهيئ أغلب أعماله في ذهنه أولاً.. "ولا أبدأ الكتابة قبل ان تكون أفكاري قد نظمت جيداً. وكثيراً ما أقوم بتلاوة نصوص من أي حوار اكتبه وبالطريقة التي ستكون عليه عند كتابتها، فأنا أؤمن بأن الأذن هي أفضل وأحسن مراقب أو ناقد.. ثم لا أكتب أي جملة على الورق قبل ان اتيقن بأن الطريقة التي سأعبر بها ستكون مفهومة وواضحة تمام الوضوح للجميع..".
.. الى العزلة في هافانا
ثمة من كتب سيرة همنغواي ولخص التغيير في سنواته الأخيرة بالتالي: "بعد الحرب، لم يعد همنغواي كما كان" بدأت تنقصه الحركة كذلك الحيوية والنشاط، وبطل الحروب صار اقل من انسان عادي.."
في تلك المرحلة تغيرت شخصية الكاتب وحسب كل المقربين منه: "ثمة ما تبدل في شخصيته" وقد اعتبر بعض المحللين ان الأمر يعود الى وراثة في العائلة، فوالده عاش اضطرابات في شخصيته بعد سن معينة وانتحر، كذلك انتحرت اثنتان من شقيقات الكاتب، وستنتحر عام 1996 حفيدته الممثلة الهوليودية مارغوهمنغواي.
وما لبث ان اصبح همنغواي عنيفاً ومنعزلاً وذهب الى اقصى حدود الخيانة ان مع نسائه وان مع اصدقائه، فقد وصف أكثر من صديق "بالخائن".
أما الذي لم يعرفه عنه هؤلاء الأصدقاء الذين هجروه هو انه كان على طريق خيانة نفسه ايضاً، وكان ان اعتقد بأنه سيتغير مع تبديل مكان اقامته فرحل الى كوبا واشترى منزلاً واسعاً وجميلاً على مرتفعات منطقة "فينكافيجيا" وهناك راح يستقبل نجوم هوليوود بعد ان تم اقتباس اكثر من رواية من أعماله للسينما. عام 1950، كتب "أبعد من النهر وتحت الشجر" وهي تحكي قصة حب كولونيل عجوز في بعد انساني عميق. ولم يكن احد يعتقد ان همنغواي الذي صار منعزلاً ومنسياً في هافانا في كوبا سيكتب له فصل أخير وعلى قدر من الأهمية في حياته. ففي عام 1952 وحين اعتبر البعض انه انتهى، كتب "الشيخ والبحر" وكان ان فعلت هذه الرواية ما يشبه البرق الساطع في سماء أدبه، فنالت "جائزة بوليتزر" الأميركية عام 1953، وبعدها "جائزة نوبل" للآداب عنها وعن مجمل أعماله عام 1954. وفي ستوكهولم، تسلم همنغواي الجائزة وألقى كلمة وصفت بأنها "اقصر كلمة القاها فائز بالجائزة"!.
وكأن ارنست الطفل أو المراهق اوهمنغواي الشيخ لم يعد لديهم ما يعبرون عن أكثر مما وضعه همنغواي الكاتب في "الشيخ والبحر" وتحديداً في بطله الشيخ الصياد الذي كان يكلم نفسه ويقول: "لو سمعني الناس اتكلم بصوت مرتفع لظنوا انني مجنون. ولكن ما دمت غير مجنون، فلست أبالي بظنونهم.." وذاك العجوز الذي كان بطلاً في شجاعته وعناده واصراره على مصارعة الحياة كان يدرك في نفس الوقت تفاهة الواقع وكان يدرك ايضا ان الحقيقة الكبرى في الحياة تكمن في الموت وان عليه ان يواجهها بشجاعة ايضاً...
صراع مع الموت
وصراع همنغواي مع الموت لم يكن قد بدأ مع مرحلة كتابة لرواية "الشيخ والبحر" بل قبل ذلك بكثير، فهو عندما كتب "لمن تقرع الأجراس"؟ استعان بكلمة مؤثرة من أعمال الشاعر البريطاني جون دون وضعها في افتتاح الرواية جاء فيها: "ما من انسان شبيه بجزيرة كاملة ومنفصلة، كل انسان هو جزء من المحيط، هو جزء من الكل، كل موت يصيب انسانا يميت جزءاً مني لأني مرتبط بالكائن الانساني. لذا عندما تسمع الجرس يقرع لا ترسل احدهم ليسأل: لمن تقرع الأجراس"؟ انها تقرع من أجلك"..
ولم تكن ميتة همنغواي اقل عنفاً من يومياته في سنواته الأخيرة: ففي صباح الثاني من تموز من العام 1961، اطلق النار على نفسه من بندقية صيد شبيهة بتلك التي كان قد اهداه اياها والده وهو في العاشرة. نصف قرن ما بين اقتنائه البندقيتين واذا هو استخدم الأولى في رحلات صيد اعتبرها الأجمل في حياته، فالأخيرة وضعت النقطة النهائية لقصة حياته.
غير ان رحيله لم يضع نقطة النهاية ايضا لأعماله اذ صدر بعد موته عدد كبير من المؤلفات الرائعة وكان أبرزها "باريس عيد" والمخطوطة وضعها في ايامه الأخيرة حين حصلت معه "اعجوبة" ـ حسب قوله ـ يوم وصلته حقيبة من "ريتنر" سبق ان اضاعها خلال الحرب العالمية الثانية، فتم العثور عليها في اقبية الفندق الذي كان قد نزل فيه، بين الأغراض الضائعة للزبائن القدامى. ولكن حين يكون الزبون يدعى ارنست همنغواي فان الحقيبة تصير كنزاً ثميناً، وحين وصلته وصفها بالتالي: "كانت بؤرة ذكريات هائلة" ومنها طلع كتاب "باريس عيد" وغيرها من المؤلفات من وحيها.
ولم تنصف الصحافة همنغواي سوى بعد رحيله، فقد كتب بعض الباحثين سيرته بأكثر من قلم وبأكثر من رؤية مختلفة، غير انها اجمعت كلها على انه وراء قناع الملاكم الملتحي والعنيف أو قناع الصياد الشجاع والشرس احيانا او قناع المقاتل في الحربين العالميتين، كان هناك رجل مفرط الاحساس يختبئ وراء كل هذه الأقنعة ليبرهن للعالم ولنفسه رجوليته التي حجبتها امه مؤقتاً في صغره بمظهر الدمية الجميلة الأمر الذي شكل عقدة في حياته وجعله يعجز عن مسامحتها حتى يومه الأخير، واذا رحيل همنغواي قد رأى فيه البعض ضعفا او خيانة للحياة، فهو في صراع "شيخه" مع البحر وضع ملحمة انسانية لا مثيل لها في تصويره لكفاح الانسان على الأرض وصراعه الكبير مع الحياة عبر صورة مشهدية تحمل جماليات لا توصف ورموزاً هائلة جعلت منها اسطورة من أساطير الأدب العالمي.




اخر الاخبار

يوسا يمنح لقب ماركيز

منح الملك الإسباني خوان كارلوس لقبين أرستقراطيين لكل من الحائز على جائزة نوبل في الأدب لعام 2010 ماريو فارجاس يوسا، ومدير الفريق الوطني الإسباني لكرة القدم فيسنتي ديل بوسك، وذلك وفق إعلان النشرة الرسمية الإسبانية أمس الأول.


وسيحصل فارجاس يوسا وديل بوسك على لقب “ماركيز”، وهو لقب أدنى من لقب “دوق” ولكنه يفوق لقب “كونت”. وحصل فارجاس يوسا بيروفي المولد على اللقب عن “إسهاماته الرائعة التي حظيت بتقدير عالمي” للأدب باللغة الإسبانية. وقالت النشرة إن ديل بوسك الذى فاز فريقه بكأس العالم لكرة القدم في جنوب أفريقيا عام 2010 لديه “قيم رياضية مشجعة”. وسيتم مخاطبة فارجاس يوسا وديل بوسك من تاريخه بـ”صاحب السعادة”.



اخر الاخبار

نكاح العقل ولذة الادب

الاثنين، ٢٤ يناير ٢٠١١



في تاريخ الأدب والمجتمع في الغرب كما في الشرق، فيلسوفان عالجا مسألة اللذة، هما اليونانيان أبيقور وارسطو. ابيقور أطلق مبدأ أخلاقياً يرى ان دافع النشاط الأنساني ينحصر في التماس اللذة.


لذّة الجسد وتجنّب الألم. أما أرسطو فيؤكّد في بداية كتابه «الشعر» أن الإنسان يبدي منذ طفولته ميلاً لتمثيل الأشياء، وايجاد اللذة في عرضها. هذا التفسير للذة يبيّن ان أرسطو يبني تفكيره على مفهوم انتربولوجيا (دراسة الطبيعة الإنسانية) قوامه النظرة الى الأنسان الذي يحبّ تقليد الأشياء وتمثيلها، كما ينظر اليه على أنه كائن اجتماعي، والسبب كما يوضح ارسطو أن التعلّم لذة ليست محصورة بالفلاسفة، وإنما موجودة عند كل الناس.


تلقّف العالم الغربي مفهوم اللذة وانشأ تقليداً ادبياً وفلسفياً جزءاً منه اتجه باتجاه استيحاء اللذة تمثّل في العديد من الكتاب والفلاسفة ومن بينهم لوكريس وسبينوزا وفرويد ولاكان، واتجه جزء آخر الى استلهام ارسطو الذي تحدّث عن اللذة الأدبية ومن ممثّلي هذا الجزء الكاتب الفرنسي الشهير رولان بارت.


يبدأ بارت معالجته لمفهوم اللذة في كتابه الشهير «لذّة النص» بالتفريق بين اللذة PLAISIR والمتعة JOUISSANCE، ويقترح تحديداً لنص اللذة بقوله: «هو النص الذي يرضي، ويمنحنا شعوراً بالامتلاء والارتياح»، ويضيف إنه النص الذي يأتي من الثقافة، ولا يقطع معها، ويرتبط بممارسة مريحة في القراءة، أما نص المتعة «فهو النص الذي يخلق شعوراً بفقدان شيء، ويزعج، ويزعزع الأساسات التاريخية والثقافية للقارئ».


ان الفوارق بين مفهوم ارسطو للذة الأدبية ومفهوم بارت كبيرة. ففي حين يذهب أرسطو الى اعتبار «التعرّف» الى أشياء الواقع من خلال النص الأدبي، هو أعلى درجات اللذة الأدبية، نجد بارت يراها بالمفاجأة. ويوضح الكاتب الفرنسي أن النص الأكثر كلاسيكية (رواية لبلزاك، وديكنز، وتولستوي) على سبيل المثل يحمل في طيّاّته خفيّة القدرة على المفاجأة التي تحدث المتعة.


من ناحية أخرى يرى أرسطو أنّه من دون «التعرّف» لا قدرة عند الشكل إلاّ إحداث لذة ثانوية، فيما يرى بارت أنّ لعبة الشكل الفني التي يمارسها الكاتب من حيث عمل اللغة، وحركة المفردات، وبناء الصياغات، هي التي تحدث اللذة الفائقة الحدّة وهي المتعة.


في الواقع، تفهم هذه الفوارق بين أرسطو وبارت من خلال العودة الى سياقات النصوص التي يعالجانها، فأرسطو يعنى بشكل خاص بالمسرح، فيما بارت يهتمّ بالرواية والشعر، لا بل أن بارت يتحدّث عن لذّة النص من خلال حديثه عن مفهوم الحداثة. أي ذلك المفهوم الأدبي الذي نما وتطوّر في القرن التاسع عشر في الغرب الأوروبي، وعبّر عنه الشاعر بودلير بدعوته للبحث عن اللذة في الذهاب الى «أعماق المجهول لإيجاد الجديد».


لكن الباحث المتطلّع الى أبعد من هذه الفوارق يكشف عن نقاط التقاء بين أرسطو وبارت.


الأولى أن رهان الأدب يكمن في أحداث اللذة وإلا فلن يكون أدباً، والثانية أن هذه اللذة ليست على نمط واحد، وإنما هي متنوّعة ومتعدّدة، والثالثة أن اللذة الأدبية إضافة لما تحدثه على مستوى الشعور، مرتبطة بالحشرية، وبالرغبة في المعرفة.


مما لا شك فيه أن مفهوم اللذة الأدبية شكّل عبر التاريخ مجالاً واسعاً لإبداء الآراء التي تفسّر هذا الشعور الذي ينتاب الإنسان عندما يقرأ رواية، أو يسمع قصيدة، أو يشاهد مسرحية، كما شكّل مجالاً واسعاً أيضاً للنظريات التي تعالج اللذة الأدبية من خلال معالجة لذة أكبر هي اللذة الفنية التي تحدثها الفنون الجميلة من موسيقى ورقص وسينما ونحت وتصوير، في نفس الإنسان بخلق مشاعر التضامن والتعاطف والإعجاب والتقدير، مشاعر ترتبط بالخير والحقّ والجمال.


من الآراء التي يشار إليها، رأي للكاتب الفرنسي لافونتين صاحب كتاب «الحكايات» على ألسنة الحيوانات مفاده أن اللذة الأدبية عائدة لقدرة الأدب «على التثقيف وإثارة الإعجاب»، أي أنه في الوقت الذي يساعدنا على التعلّم يدخل البهجة على النفوس، ويذكر لافونتين في هذا السياق أن الخطيب اليوناني الشهير ديموستين كان يخطب في الناس حول الأخطار التي تهدّد مدينته أثينا، فما كان يسمعه أحد، فاضطر الى وضع ما يريد قوله في قالب قصصي، فاسترعى الانتباه وحقّق هدفه. وبذلك أظهر قدرة الأدب على إقناع الناس بما يريد أن يعتقدوا فيه.


إن قدرة الأدب، أو بالأحرى الأساليب الأدبية النابعة منه على الإقناع ما زال معمولاً بها حتى يومنا هذا، فقد أعيد استنباتها من خلال علوم اللسان الحديثة ومن بينها تحليل الخطاب، وفن المحاججة المتكئ على البلاغة كوسيلة «لإقناع العواطف». هذه الوسيلة تتمثّل في القول إنه لكي نقنع الآخرين بصواب رأينا، لا بدّ من أن نؤثر فيهم، ولكي نؤثّر لا بدّ من تحريك القلب من خلال صور قوية، وإرضاء الأحاسيس وبخاصة السمع، بحسن اختيار الأصوات والإيقاعات كما في الشعر والخطابة، وإرضاء النظر بالحركات والملابس والديكور كما في المسرح، وإرضاء المخيّلة بمشاهد كلامية، وأوصاف طبيعية وأخلاقية كما في الرواية.


رأي آخر تجدر الإشارة اليه، برز في الغرب الأوروبي قريب من مفهوم بلاغة العواطف، عبّر عنه أرسطو في كتابه «الشعر» بمصطلح التطهير CATHARSIS والذي ما زال معتمداً حتى اليوم. ومضمونه أن الأدب يعمل على إيقاظ عدداً من المشاعر عند المشاهدين والقراء والمستمعين من خلال مشاهدتهم وقراءتهم واستماعهم لحالات تمثّل حالات الواقع الذي يعيشونه، وبذلك يمروّن بحالة تطهير تخفّف من توتّراتهم الوجودية. هذه الحالات هي الشفقة على الأشخاص الذين يمرون في حالات صعبة، والخوف ان يقعوا في ما وقع به هؤلاء من مصاعب. تجدر الإشارة هنا ان التطهير الذي ارتبط أساساً بالتراجيديا، ما لبث أن تمّ تعميمه على بقية الأنواع الأدبية، بما فيها الشعر والرواية، وبذلك غدا مفهوماً عالمياً تتمّ العودة اليه كلما دار الحديث عن دور الأدب ووظيفته في تنقية النفوس الإنسانية.


إن مفهوم «بلاغة العواطف» و «التطهير» لا يعبرّان لوحدهما عن اللذة الأدبية، إذ نقع على مفاهيم تناقضهما كما هي الحال مع دعاة «الفن للفن»، وأتباع السوريالية.


يذهب دعاة «الفن للفن» أن اللذة الأدبية تتأتّى من الشكل الناجح. وليس من المضمون الذي يحمل رسائل أخلاقية أو حكمية، وأن هذا الشكل هو هدف الأدب في الوجود كما يردّد الشاعر الفرنسي فرلين، ويذكّر الكاتب الفرنسي الآخر لافونتين بقوله: «نروي الحكايات، ولكن الأهم أن نروي بأسلوب رفيع» في الواقع إن الإتقان في الشكل يعبّر عن همّ أساسي عند الأدباء والشعراء، فهم يتعمّدون شغله لأنهم يعتبرونه الشرط الأساسي لاستثارة انتباه الناس حتى ولو كان المراد تحميل الشكل رسائل سياسية أو أخلاقية. والداعي للانتباه هنا، أن فنيّة الشكل الذي يعتمده دعاة الفن للفن هو في الواقع مثالية لا فائدة منها لأن كل نص يقول شيئاً، أو يعبّر عن فكرة، أو يصوّر حادثة ما، أو يمثل حالة نفسية، وبالتالي لا يمكن إنكار قيمة مضمونه، والاكتفاء بالشكل لاستثارة اللذة الأدبية.


ليس بعيداً من أصحاب «الفن للفن»، أو كما يقال عبّاد الشكل، يقف أتباع السوريالية الذين يرون أن اللذة الأدبية تنبع من اكتشافنا لعالم اللغة، وما يخبّئه من أسرار. فنحن لو غيّرنا في ترتيب الكلام، وتلاعبنا في صيغ القول، وقلبنا أشكال المعاني المتعارف عليها كما فعل الشاعر الفرنسي رامبو لإحسسنا بلذة أدبية من انثيال معان جديدة لم يحرّكها أحد من قبل، ولشعرنا بأن هذه المعاني لا تعبّر عن مغامرة حياة ما، وإنما تعبّر عن مغامرة الكتابة في سعيها لاكتشاف المجهول والمنسي والمحرّم التعبير عنه.


في المحصلة الأخيرة ان الحديث عن اللذة أسهل من العمل على تحديدها، واكتشاف معانيها يغني في تفهّم ملامحها الجسدية والنفسية التي يعيشها الإنسان، من خلال لذة المذاق والنظر والصوت والجنس، ومن خلال لذة معاشرة الأشكال الفنية بكل أنواعها

اخر الاخبار

مجموعة انشقاق الشعرية واسوار النشر

الأحد، ٢٣ يناير ٢٠١١

في مجموعة (انشقاق) للشاعرة سمر الشيخ متعة وتأثير وايحاءات ..وفيها ما يثير مشكلات يجد القارىء والناقد انه لم يعد من الجائز السكوت عنها. اولى هذه المشكلات بل الاولى والثانية تتمثلان في المجموعة التي بين أيدينا. اذا تساءل من يقرأ هذا الموضوع عن الشاعرة سمر الشيخ فالجواب هو ان كاتب هذا الموضوع نفسه لم يستطع ان يعرف عنها شيئا. فدار النشر كما يبدو تعتبر ان كل الشعراء هم ادونيس وكل الروائيين هم نجيب محفوظ.
المشكلة الثانية التي يبدو انه لا بد من تحميلها لدور النشر هي الاخطاء اللغوية وفي المجموعة منها ما لا يجوز وما لا يقبل. اذا كانت عند شاعر او كاتب ما مشكلة مهما كان حجمها فمن مسؤوليات دور النشر حلها لا تركها احيانا "تصفع" عين القاريء حتى ذاك الذي ليس "حنبليا" مدققا في الشأن اللغوي. فليس من المقبول "اتحاف" القراء بأخطاء كأخطاء قسم من تلامذة المدارس. ومعظم الكتب يكاد لا يخلو من اخطاء محدودة تفوت الكاتب والمصحح لكن الامر هنا تجاوز ذلك.
المشكلة الثالثة التي تقع فيها بعض دور النشر بل توقع القارىء العادي والقاريء الناقد والباحث احيانا فيها هي اصدار كتاب جديد وفيه قول انه الطبعة الاولى ليعود ويكتشف بعد فوات الاوان احيانا انها ثانية او ثالثة. الامثلة كثيرة على هذه الحال وينبغي عدم السكوت على ذلك.
نعود الى مجموعة سمر الشيخ الشعرية وفيها الان تتمثل مشكلتان من الثلاث.. التعريف بالشاعر او الكاتب وترك الاخطاء اللغوية في حدها غير المقبول. صدرت المجموعة عن دار نشر بارزة هي (الدار العربية للعلوم ناشرون) وجاءت في 111 صفحة متوسطة القطع احتوت على ما لا يقل عن 51 قصيدة.
قصائد سمر الشيخ لا ينقصها النبض والتوتر الشعريين ولا الصور ولا الموسيقى. أهدت الشاعرة مجموعتها الى ما يشبه "جودو". جاء هذا في قولها "للحب ... الحب الذي لا يأتي." واذا كانت المقدمة تتكلم عن حب لا يأتي فقراءة قصائد المجموعة عامة تحملنا الى عالم حب مقيم ..لم يبتعد ولم يهاجر.
القصيدة الاولى عالم من الحزن والحسرة وصور ونبض مع سمات "ماغوطية." موسيقى القصيدة كمعظم قصائد المجموعة واضحة بيّنة في النبض والايقاع تتشكل من خلال تجربة لا تعوزها الحرارة من تقطيع الجمل وتنظيم مواقع الكلمات وتتحول الحال احيانا الى ما اطلق عليه اسم "الموسيقى الداخلية"
عنوان القصيدة هو "شاعرة." انها عن عبثية الكلام ولاجدواه او عبثية الشعر وهي تشكل نموذجا كبير الشبه بما يأتي بعده. تقول "لا احد يتفيء بالشعر/سأموت ../ لكن جنازتي تعبر../ بلا اكاليل / مطر../ لن يقرأ احد القصيدة / يظل ديواني الاخير اخرس على الرفّ.." ثم تقول "امي وحدها ..تزرع يدها سروة في قلبي / تأخذني الجنة / الجنة الفارغة مني."
في قصيدة "جنة في الطريق" تفلسف حزين في صور ومجازات اذ تقول الشاعرة "الوجود داخلي../ يقرؤني سلامه كل صباح/ افتح عينيّ/ امدّ له يدي ( تنبلج منهما عشر زهرات وبحيرة ...) ان الحزن خلق وحيدا ( ليموت وحيدا."
في قصيدة "رغيف ينبض" مطلع يحمل غلطتين من حيث سوء فهم عمل "كان واخواتها" مع اسمها وخبرها. تقول الشاعرة "هل كان لك يوما قلبا ساخنا كخبز محروق في التنور..) هل تذوقت دموع الفقر.. ( هل شممت رائحة الجوع) وانزرعت في وحدة قاحلة ( هل .."
في قصيدة "الحرية ان لا تنتظر شيئا" تقول الشاعرة في صور موحية وموسيقى تحمل الى الذهن صورة افول ينساب حزنا "انت تكتب حزنك/ ان الحزن يفقد ذاكرته / يعرف موعد الرحيل /والموت الذي لا يبالي بنا/الموت العابر المقيم/ الوجه الثالث والاخير لحياتك/ الوقت يمر كما هو /احمل قدميك وامض حيث تريد / افرد اصابعك العشر." .. انها هنا العشرة لا العشر.
في قصيده "هي" صورة جميلة ترد بهدوء تقول "كان صوتي حكاية../ لم يرتق لان يكون اغنية / صوتي ليس جميلا../ انه فقط عميق ولا يتكلم."
قصيدة "بعيدة حتى انني لا اتي" تسيل حزنا دون دوي حزنا هادئا كالاعترافات .تقول "كل يوم ../ تسقط شيئا/وكأنك ذاهب للموت بطيئا ... / من قال لك اننا نحب الشعر../ ان الشعر يذكرنا / كم اننا لا نملك سوى قلوب تضيق../كثقب ابرة ..."
الا انها من خلال كل ذاك الحزن وما يبدو تشاؤما تتصرف مثل كثير من كبار المتشائمين ومنهم في العربية ايليا ابو ماضي اي تصل الى حل ما كي تستمر الحياة. تقول "لاتحزن كثيرا ../ثمة اشياء لا تستحق الحزن من اجلها /كأن تفقد صورك القديمة او تضيع يدك من الحقيبة /ما زال ثمة وقت / ثمة طريق لا ينتهي الا اذا انتهينا."
في قصيدة "على حافة الجنون" عودة الى الصور وان جاء بعضها غامضا في مدلولاته والى التوتّر المموسق في شكل جميل ..وكذلك الى الاخطاء وهي مرة اخرى تتعلق بكان واسمها وخبرها. تقول "حين يكون كل شيء بخير نزرع وردة على السنتنا / نقبّل الشمس باجسادنا/نضحك على حماقات البندقية / يكون الرصاص اجنحة /والاصابع طيور والاصوات غيوم." وتضيف "حين يكون كل شيء بخير../ اثق بالالوان/ ثمة تفسير للحياة لا يعنيني/لا انتظر الغد/الغد الذي لا يأتي/ يكون الغد السابق."
في "منفى" شيء من اجواء بعض قصائد محمد الماغوط الاولى. تقول "لم يا وطني.. / امسح جبينك/فتقطع يدي../ اشرع ابوابي / ونوافذ روحي / فلا تعرفني بواديك..."
في "شهوة الريح" اجواء حزن وجمال وتكرار لاخطاء بدائية. "حين يمر بي العمر /متروكة في رباط/ سأذرّ شهوتي للريح تعبث بها / عجوز وحيدة ../مفلسة /اقلب صوري القديمة /اسمع اغنياتي / اجوع للحب .."
ونعود الى الاخطاء في قولها "لو مرت ستون سنة/ او خمسة وستون.." عوضا عن خمس. وتضيف قائلة "متروكة في غرفة قديمة /صبيان الحي يلعبون بالكرة .../ الشابات يمرون على بابي /ولا يدخلون .."
ومن الاخطاء تنوين الممنوع من الصرف توهما ان ذلك يحق للشاعر. والواقع ان ذلك يحق للشاعر الذي يتبع وحدة الوزن والقافية لا لمن يكتب قصيدة النثر او الشعر الحر ومن ذلك ايضا هفوات مثل استعمال اداة الجزم وبعدها فعل ينتهي بحرف علة والابقاء على هذا الحرف رغم الجزم.
بعض القصائد القصيرة جدا يتمثل بقصيدة "تفسير" التي تقوم على فكرة. قالت الشاعرة "الارواح احلام / لا تتحقق."


اخر الاخبار

تراتيل متوسطية واديب يوغسلافى

كتاب ( تراتيل متوسطية ) الساحر في فرادته وجنسه الإبداعي - للكاتب بريدراج ماتفيجيفتش – يعد سفرا يجمع بين ثقافة كونية ومعارف واسعة ويقارب في جدليته كما يقول – كلوديو ماجريس في مقدمة الكتاب – بين تقارب وتباعد الحياة والأشياء والتاريخ ، وهو منحاز للذاتية في الرؤية دون أن يتنكر للكونية ويقاوم الكليانية دون تجاهل منظور شمولي للواقع




، والكاتب يوغوسلافي واستاذ للادب الفرنسي بجامعة زغرب والأدب المقارن في السوربون عاش منذ بدء الحرب اليوغوسلافية ثلاثة اعوام في باريس ثم انتقل للعمل في جامعات ايطاليا وهو رئيس اللجنة الدولية لمؤسسة ( مشغل البحر المتوسط )في نابولي ومستشار شؤون المتوسط في مجموعة العلماء بالمفوضية الاوروبية . وهو كاتب شجاع له مداخلات سياسية وابحاث ادبية واسعة ورسائل مفتوحة وجهها الى قادة العالم من اجل الدفاع عن الحريات وضحايا السلطة..
يتحدى الكتاب – جميع الأجناس الادبية فبحره المتوسط ليس المجال التاريخي الثقافي فقط والذي درسه الباحثون وليس هو المجال الصوفي الروائي الذي احتفى به اندريه جيد وكامو ، إنه عمل ينهل من الخرائط البحرية والرحلات والهجرات والمعاجم ومن البحث العلمي والرواية ، الكتاب الكنز- لعلي لا أبالغ اذا ما قلت أنه ذكرني بكتاب الرمل الخرافي الذي ابتدعه بورخيس فكل صفحة من الكتاب عبارة عن مكتبة هائلة من المعلومات والمتع الابداعية فهو لم يستند الى المصادر ويقرأ الموسوعات حسب بل قرأ العالم والواقع والحركات ونبرات البشر واسلوب ادارة الموانئ وتمدد الطبيعة في التاريخ والفن واتخاذ اشكال السواحل أشكال المعمار وهو يرسم حدود ثقافة شجر الزيتون في امتداد الديانات اوهجرة سمك السلور ، يقرأ التواريخ والمصائر في اللغات الزائلة ولغة الامواج والأرصفة يصير الكتاب ملحمة سخية بالأسفار وبهذا وغيره يمسك الكاتب بالبحر المتوسط ويمازجه بمذاق الزيت والخمر ولون الامواج وحمرة المرجان ..
ساقتطع فقرات من هذا الكتاب الساحر الممتع فهو جنس أدبي اكثر حضورا من البحث العلمي واجمل من الرواية، انه بحث في مجاري الانهار الذي سعى كاتبه في الأنهار العظمى ومنها نهر الدانوب ليتحدث عن الحنين الكبير للبحر وتداخل الثقافات ..
( يحتضن المتوسط ، اجزاء واسعة من القارة الأوروبية ، ويخضعها لتأثيره ، فحدود ثقافته غير مندرجة لافي المكان ولافي الزمان (....) إن هذه الحدود ليست تاريخية ولاعرقية ولا وطنية ولا دولية ، إنها دائرة طباشير لاتتوقف عن الرسم والامحاء (...) فعلى طول الساحل كانت تمر طريق الحرير وطريق العنبر وتتقاطع مع طريق الملح والتوابل والزيت والعطور،، طرق الأدوات والأسلحة والفنون والمعرفة والنبوءات والإيمان ) يمضي بنا ماتفيجيفتش ليحدثنا عن معاناة الخطاب المتوسطي من الثرثرة حول الشمس والعطور وجزر السعادة والفتيات سريعات النضج والأرامل المتشحات بالسواد والموانئ والنخل والزهو والبؤس والأوهام ،وما كرره الأدب من أوصاف وأقوال ،خدمت البلاغة المتوسطية الديمقراطية والديماجوجية ،خدمت الحرية والاستعباد ، واستحوذت على المعبد والسوق ، على العدالة والوعظ الفارغ..
يلاحق الكاتب المتناقضات المتوسطية ، الهندسة والشكل والمنطق والعلم ومن جهة أخرى أضدادها :الكتب المقدسة وكتب التصوف في مواجهة الحروب الصليبية او الجهاد ، الذهن الكنائسي ونبذ التعصب ساحة السوق والمتاهة الديونيسية ومكر سيزيف وخداعه ،المشرق والمغرب، النصرانية والاسلام .
يتفحص الكاتب مزاج البشر المتوسطيين وشتائمهم وشهواتهم وعلاقتهم بالموج والريح والنجوم ، يكتشف تدفق الأنهار إلى البحر وحنينها له ( تخترق الانهار المتوسطية البحر بطرائق مختلفة : يفعل بعضها ذلك باحتفال وكأنها راضية بإنجاز واجبها ،البعض الآخر يبدو مفاجئا ويدخل بفتور ، يكون بعضها راضيا والآخر مترددا او مستسلما ، تزج الأولى مياهها على مضض بالبحر ..لا يحتفظ لها البحر بنفس الاستقبال (..) ...( عبرت كثيرا من انهار المتوسط متتبعا مجراها واستحممت فيها وتنشقت الروائح التي تفوح من نباتاتها ، تختلف أنواع القصب من مصب لآخر .. وليس للصنوبر نفس الرائحة في محيط الأنهار او بعيدا عنها إننا نعرف في روائحه مختلف مناطق المتوسط )..يظهر هنا عالم النبات الشاعر والضليع بالشجر الخالد ( ترسم شجرة التين حدود ثقافة المتوسط وتوسعها في المكان الذي يتراجع عنه شجر الزيتون .. تختفي شجرتا البرتقال والليمون فيما وراء المصبات ..يصف الكاتب ترحل البدو بين ليبيا والمغرب ، يحدثنا عن دولتهم التي يمثلها العراء الصحراوي ، يروي عن هجرة الأتراك من أعماق آسيا الى سواحل المتوسط وعن تسمياتهم وعاداتهم ،مثلما يتحدث عن الأقباط وهجرة اليهود مع موسى ،عن العرب الذين فتحوا البحر بسيادتهم على البر من الشرق الى الغرب جاؤوا وهزموا الأسطول البيزنطي قرب رأس الفينيق ،مثلما تقدمت هجرات الشعوب التي تتعقب الشمس عرف العرب قبل غيرهم استعمال القطران ومصطلح أمير البحر الذي صار( أميرال )، ومنهم أحمد بن ماجد العارف بفن الملاحة دليل فاسكو دي غاما .. كتاب يشكل اجابة جوهرية في مروياته عن جذور الحضارات وأساطيرها و اللغات وتطورها ، إنه رواية التكوين الكبرى لرحم حضاري ممتد من الشرق الى الغرب على سواحـل المتوســط.

اخر الاخبار

هوراسيو كاستيلانوس مويا وادب السلفادور

سيكون الواحد مدفوعاً بقوة إلى اسم مؤلف معاصر على هذه الدرجة من النجاح كالكاتب السلفادوري هوراسيو كاستيلانوس مويا، حين يصل الأمر لديه حدَّ الكشف عن الأوجه الأكثر فحشاً و إحراجاُ للوعي الإنساني، كما يقول جورج فراغوبولوس في عرضه النقدي هذا.




فروايات مويا، الذي ولد في عام 1957، و عمل أولاً في الصحافة قبل أن يُصبح روائياً، تتحدث بإلحاح عن الوقائع السياسية المزعجة التي غالباً ما تكون بعيدةً عن أذهان معظم الأميركيين الشماليين. و قد أحرز مويا قدراً معيناً من " سوء السمعة " في بلده بعد نشر روايته في عام 1997. و سرعان ما بدأ الكاتب يتلقى تهديدات بالموت، مما أدى بالكاتب التشيلي الراحل روبيرتو بولانو إلى القول إن إحدى فضائل مويا المركزية هي أنه يدفع القوميين إلى الخَبَل.
و هو، في تأثره بأسلوب أحد أسلافه الكتّاب، توماس بيرنهارد، يُعد أستاذاً في سخريته اللاذعة الموجعة؛ و أصواته المتّسمة برهاب الاحتجاز claustrophobic ( الخوف من الأماكن المغلقة ) تنضح و تقطر يأساً، و عنفاً، و تحفيزاً ( في الأقل تلك الأعمال التي ظهرت له مترجمةً إلى الانكليزية لحد الآن قد وقعت تحت هذا التصنيف ). و يبدو مويا أنه قد أخذ جدياً بدعوى دوستويفسكي القائلة بأن الوعي مرض، لكن هذا لا يعني أننا ينبغي أن نحسبه من المؤمنين بأن لا وجود لشيء غير الأنا solipsist : فبالنسبة لمويا لا وجود لوعي، و لا نفس، لا يكون عرّضياً لوقائع اجتماعية و سياسية أكبر تعبّر أو تُخبرعن أوجهٍ كهذه للتجربة الإنسانية.
بمثل هذه الاعتبارات، فإن أحدث رواية ظهرت لمويا في الترجمة الانكليزية، ( الشيطانة في المرآة The She-Devil in the Mirror )، تُعد قطعةً رفيقة ممتازة لعملٍ تُرجم سابقاً،( سُخف . ( Senselessnessو هي، مع شبهها الكبير بسابقتها، و كونها أيضاً موجزةً و لاذعة، فإنها تحدث كلّيةًً في عقل شخصيةٍ وحيدة على حافة الجنون. و في حين أن رواية ( سُخف ) يرويها مصحح طباعة بطيء يبدأ على نحوٍ بطيء بإدراك أنه " غير كامل في عقله " و هو يحرر تقريراً حكومياً يفصّل فظاعات مرتكبة بحق سكان محليين في بلد أميركي لاتيني غير مسمَّى، فإن ( الشيطانة ) ترويها لورا ريفيرا، عضو النخبة الاجتماعية بالسلفادور، و هي امرأة تشكل حياتها مادةً لتلينوفيلا telenovela ( و هو نوع أدبي شعبي بصيغة أرفع لإلقاء الضوء على الأوجه الأكثر سخفاً لقصة بطله القصصي ). و مثلما هي الحال كثيراً مع المصحح الطباعي لمويا، تصبح لورا أيضاً تدرك، و إن متأخراً جداً، " أن هناك شيئاً ما غير صحيح مع عقلي ".
و يبدأ انحدار لورا إلى الجنون ( فيما يبدو ) مع الاغتيال العنيف لصديقتها الحميمة، أولغا ماريا. و حين تبدأ الراوية بمحاولة الكشف عن غموض الاغتيال، نعلم أموراً أكثر عن لورا و معارفها، و أسرتها، و عشاقها. و يمكن القول إن بطلة القصة الحقيقية في ( الشيطانة في المرآة ) هي البلاد نفسها، ألسلفادور التي عاثت بها الحرب الأهلية، و المناخ السياسي الذي أعقب ذلك. و كما قال نيتشه، " إن الخبَل في الأفراد أمرٌ نادر، لكنه في الجماعات، و الأحزاب، و الأمم هو القاعدة ".و ما جنون لورا إلا امتداد للإعصار السياسي، و الجنون، الذي هو تاريخ بلدها الحديث. غير أن الأمور أكثر تعقيداً نظراً لأن لورا يمكن أن تكون ضحيةً و مضحّية : فبينما هي تعيش وجوداً امتيازياً في نواحٍ عدة، فإنها أيضاً جزء من نخبة تتّسم بسفاح القربى و تمتّع أفرادها بطريقة مغرية ــ فليس مصادفةً أن تتشاطر لورا و أولغا الكثير من العشاق أنفسهم، أو غالباً ما تجدان نفسيهما تتعرضان لخيانة أقرب الأشخاص إليهما.
و من البداية، ترى لورا أن اغتيال أولغا أمر لا يمكن تفسيره. لمن غياب الإدانة هذا هو مركز الرواية الحقيقي. إذ نبقى بلا جواب بشأن لماذا اغتيلت أولغا ماريا. و يلمّح الكاتب و يلقي بإشارات فيما يتعلق بمكائد سياسية أكبر فوق فهم لورا، لكننا نحن القراء نظل غير مدركين لذلك أبداً. و بتخيلات لورا و استطراداتها الذهنية، يُنشئ مويا مرآةً نصّية لأمراض زمنٍ و مكانٍ خاصّين. و ما يجعل الرواية على هذه الدرجة من الإلزام compelling هو هذا النسج للإدانة و الشر. فالشر، و العنف، و الرعب جميعاً مفصلة هنا. و يؤكد الناقد سكوت إسبوسيتو في هذا الإطار أن روايات مويا منغمرة جدا في السياسة إلى حد أنها، للغرابة، لا تبدو سياسية تقريباً، و هو ما يدعوه " جزءاً من ما دون الوعي السياسي العظيم الذي يغلي من خلال الحياة في أميركا القرن الـ 21 اللاتينية".



اخر الاخبار

عبدالفتاح كيليطو ومفهوم الجنس الادبى

السبت، ٢٢ يناير ٢٠١١

 بقلم مصطفى الغرافي
لعلي لست مغاليا إذا اعتبرت أعمال الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو مفصلا هاما في الدراسات النقدية الحديثة، التي اهتمت بمجال نقد الموروث السردي استنادا إلى المنهجيات الحديثة، فقد بذل كيليطو جهدا في هذا المجال خصيبا منذ أعماله الأولى التي كتبها بالفرنسية، ثم ما لبثت أن ظهرت بالعربية تباعا في وقت متقارب خلال العقود الأربعة الأخيرة مثل ' الكتابة والتناسخ: مفهوم المؤلف في الثقافة العربية' و'المقامات ـ دراسة في السرد والأنساق' و'العين والإبرة، دراسة في ألف ليلة وليلة'.
بعد ذلك توجه كيليطو إلى الكتابة بالعربية، فظهرت له جملة أعمال انكبّ فيها على فحص ودراسة بعض الجوانب الجزئية المتصلة بقضايا السرديات، التي تفرغ لها كيليطو فشكلت مشروع عمره الذي خصه بكل وقته وجهده. ويمكن التمثيل لدراسات كيليطو التي انشغلت بجوانب جزئية من الموروث السردي بـ ' الأدب والغرابة'. وإلى جانب ذلك خص كيليطو السرد العربي بمعالجات على نحو كلي كما هي الحال في كتابيه، ' الغائب: دراسة في مقامة للحريري' و' الحكاية والتأويل: دراسة في السرد العربي'.
وفي جميع هذه الدراسات كانت المسألة الأجناسية حاضرة، إذ غالبا ما كان كيليطو يعمد إلى بحث الضوابط الأجناسية للأعمال التي عني بدرسها. غير أن تتبع هذه الدراسات للوقوف على تصور كيليطو لقضية الأجناس أمر يطول لتوزعها في مواضع من مؤلفاته متفرقة، لكل ذلك رأينا أن نقتصر على الدراسة الموجزة التي ضمنها فصلا من كتابه ' الأدب والغرابة'، وهو الفصل الذي وسمه كيليطو بـ ' تصنيف الأنواع' ( ص:14).
في سياق دراسته لغرابة النص الأدبي وعلاقته بالجنس الذي يندرج ضمنه رأى كيليطو أن تحديد مفهوم النص قد يكون مفيدا لتحقيق هذا المقصد، ومن هنا قدم تصوره لـ ' النص' باعتباره ' تنظيما لغويا فريدا'( ص :14). يتميز من ' اللانص' بكونه ذا ' مدلول ثقافي'( ص:14)، حيث الكلام، من منظور كيليطو، ' لا يصير نصا إلا داخل ثقافة معينة' ( ص:13)، أي أنه لا يمنح صفة ' نص' إلا من منظور ' ثقافة معينة'، بما يفيد أن الكلام الذي توافرت له خصائص ' النصية' فاعتبر ' نصا'، من منظور ثقافة معينة، قد لا يعتبر كذلك في ثقافة أخرى تنظر إليه بوصفه ' لا نصا'.
وبذلك يكون ' النص' عند كيليطو إنما يتحدد في مقابل ' اللانص'، فإذا كان النص يتميز بكونه ' ليس له تنظيم ولا مدلول ثقافي'، ومن ثم ' لا يفسر ولا يعلم ولا يحظى بأي اهتمام'،( ص:15). فإن ' النص' يتميز بأنه تنظيم له مدلول ثقافي وأدبي، وهو ما يمكنه من أن يدخل في علاقة مع ' الخطاب الأدبي' ليحقق من خلال هذه العلاقة ' نمطا' داخل ذلك الخطاب، حيث النص الذي يطغى عليه المنحى التعليمي مثلا، تهيمن فيه صيغة ' الأمر والنهي'. وهو ما ينقل هذه النصوص إلى أجناس تمثل ' الموعظة' و' الحكمة' و' خطبة الجمعة'( ص:17).. إن هذه الصيغ المتميزة هي التي وسمت الحكم والأمثال، فيما يرى كيليطو، بسمات خاصة فرقتها عما ' ليس نصا'، ومن ثم سميت ' نصوصا'( ص:14).. وعلى الرغم من هذه الفروق الموجودة بين هذه الأنواع، فقد لحظ كيليطو أن نفس القاعدة تعمل فيها جميعا. ( ص:17).
إن هذه التحديدات التي يسوقها كيليطو بغية تمييز ' النص' من ' اللانص' لتدفعنا إلى التساؤل عن علاقة النص بالجنس الذي يرتقي إليه.
إن الجنس الأدبي عبارة عن محددات سابقة على النص؛ أي بنيات نصية مجردة. أما النص فهو بنيات نصية منجزة تتحقق فيها ومن خلالها البنيات المجردة، وبذلك تكون العلاقة بين النص والجنس أن الأول تحقيق للأخير وتكوين له، ويتم ذلك عندما تشترك مجموعة من النصوص في نفس السمات الجوهرية، التي تؤشر على ارتقائها إلى جنس أدبي بعينه، سواء كان هذا الجنس موجودا أو محتملا أو مفترضا. يقول كيليطو:
' النوع يتكون عندما تشترك مجموعة من النصوص في إبراز نفس العناصر'،( ص:21). مما يعني أن ظهور مفهوم النوع الأدبي يقتضي تعددا في النصوص، شريطة أن يقوم هذا التعدد النصي على التواتر والتكرار؛ أي أن مكونات نصية بعينها تظهر في جميع النصوص المندرجة تحت نفس الجنس، وهو ما يتضح معه أن مفهوم النوع عند كيليطو مؤسس على مفهوم ' تقاليد القراءة' أو ' أفق الانتظار' الذي قال به ياوس مستلهما جادمير، حيث أن قراءة نصوص تشترك في نفس المكونات تخلق لدى القارئ ' توقعات' يقرأ في ضوئها جميع النصوص التي تنتمي إلى نفس النوع، فإذا صادف القارئ نصا لا يخضع لنفس التحديدات، فإن أفق انتظاره يخيب وينكسر، فيدرك أنه أمام نوع جديد مباين لما تعود عليه، وهو ما يقتضيه اعتماد استراتيجية في التلقي جديدة توائم النوع الجديد.
إن القارئ لا يشعر أنه قد خرج من نوع إلى آخر إلا في اللحظة التي يواجه فيها بعناصر جديدة تلقي به خارج حدود ' التقاليد' التي كرستها سلسلة التلقيات التي خضع لها النوع. وكذا الآفاق المتعاقبة عليه تاريخيا. ولكن ما هي هذه العناصر التي تستطيع، بتوافرها في النص، أن تجعله مندرجا في نوع محدد، فإذا غابت أدرج في غيره؟.
لقد جعل كيليطو هذه العناصر صنفين: عناصر أساسية وعناصر ثانوية، ويقوم التمييز بينهما، عنده، على أساس أن العناصر الثانوية يمكن للنص أن يتجاوزها من دون أن يتضرر انتماؤه النوعي. أما العناصر الأساسية فإن النص لا يمكن أن يتجاوزها من دون أن تتأثر نسبته إلى النوع، لأن عدم احترامه للعناصر الأساسية في النوع يخرجه من دائرة النوع ليدرجه في دائرة نوع آخر، وفي حال انتهاك النص لعناصر الجنس الأساسية بشكل مطلق، فإن ذلك يؤدي إلى ظهور نوع جديد.
تقودنا هذه المراجعات، التي يقدمها كيليطو لقضية الأنواع الأدبية، إلى تقرير مبدأين أساسيين تقوم عليهما الأنواع: يتمثل المبدأ الأول في الاستناد إلى تكرار عناصر بعينها ( العناصر الأساسية باصطلاح كيليطو) في مجموعة من النصوص لترتيبها في أجناس وأنواع. أما المبدأ الثاني فيتمثل في تحول الأنواع عند انتهاك العناصر المعتبرة جوهرية في النوع، حيث أن خرقها أو تعديلها يفضي إلى ظهور أنواع جديدة.
إن خصائص النوع، فيما يرى كيليطو، لا تتحدد إلا من خلال تعارضها مع الخصائص المعتمدة في أنواع أخرى، ويشبه كيليطو مبدأ التعارض الذي تقوم عليه الأنواع بالعلامة اللغوية عند سوسير، ليستخلص أن ' النوع يتحدد قبل كل شيء بما ليس واردا في الأنواع الأخرى'( ص:22).. وهو ما يقتضي الدارس، الذي يروم دراسة نوع مفرد، أن يأخذ بعين الاعتبار المقومات الأنواعية في الأجناس الأخرى، لأن ' دراسة نوع تكون في نفس الوقت دراسة للأنواع المجاورة''( ص:22).
وبعد أن أشار كيليطو إلى تقسيم الكلام عند القدامى إلى نظم ونثر قدم مقترحه الخاص لتصنيف الأنواع استنادا إلى ' تحليل علاقة المتكلم بالخطاب'، حيث رأى أن الأنماط الخطابية لا تتعدى أربعة هي'( ص:25):
1. المتكلم يتحدث باسمه: الرسائل، والخطب، والعديد من الأنواع الشعرية التقليدية.
2. المتكلم يروي لغيره: الحديث، وكتب الأخبار.
3. المتكلم ينسب خطابا لغيره.
4. المتكلم ينسب لغيره خطابا يكون هو منشئه.
لعل ما يثير انتباهنا في هذا التصنيف استناده إلى مرتكز أساسي هو ' علاقة المتكلم بالمخاطب' أكثر من استناده إلى علاقة المتكلم بالخطاب. أما فيما يخص الصيغة التي يعتمدها كل نمط خطابي فإننا نلحظ أن الصيغ الأربع التي قررها كيليطو ليست خالصة تماما، وهو ما أشار إليه كيليطو نفسه عندما لحظ تداخل الصيغ في قول امرئ القيس مثلا:
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة فقالت لك الويلات إنك مرجلي
فقد سجل كيليطو أن 'هذا البيت يتضمن نمطين من الخطاب: كلام الشاعر من الصنف الأول، أما كلام حبيبته فإنه من الصنف الثاني ( إن كان الأمر يتعلق برواية) أو من الصنف الرابع ( إن كان الأمر يتعلق بنسبة)' (ص:25). كما يمكننا أن نضيف ملحظا على هذا التصنيف آخر مؤداه أن الصيغة لا تكون دائما ملائمة للجنس، ويمكن التمثيل لذلك بالرسالة، فالصيغة التي يفترض اعتمادها في هذا الجنس، حسب كيليطو، هي الأولى لأن المتكلم يتحدث، في هذا الجنس، باسمه وهو ما لا يتحقق دائما، فلسنا نعدم بعض الرسائل الذي يتوارى فيها منشئها تماما، كما هي الحال في الرسائل التي يتولى المنشئ كتابتها نيابة عن السلطان مثلا.
إن كيليطو لا يقدم، في هذا المقترح، تصنيفا للنصوص. ويبدو أن هذا الأمر لم يكن من مشاغله في هذه الدراسة، التي سعى من خلالها إلى تقديم مبادئ عامة من شأنها أن تسعف من يتصدى لتصنيف النصوص في تحقيق مسعاه.
ومما يؤكد انشغال كيليطو أساسا بالسعي إلى استخلاص المبادئ العامة ما وجدناه عنده من محاولة لاختزال الأنماط الخطابية الأربعة بعد تحليلها إلى نمطين رئيسيين هما:
I. الخطاب الشخصي.
II. الخطاب المروي.
وهذا النمط من الخطاب يتفرع عنده إلى:
1. من دون نسبة.
2. بنسبة:
أ / صحيحة.
ب / زائفة.
ج/ خيالية.


وقد اتخذ كيليطو من مقامات الهمذاني حقلا تطبيقيا لاختبار هذه العلاقات، ليخلص في النهاية إلى اعتبار المقامات مندرجة في ' الخطاب المروي بنسبة خيالية' ( ص: 28).
على الرغم من الجهد الخصيب الذي بذله الباحث لتدقيق مفهوم النوع، فقد بقي هذا المفهوم ملتبسا وغير دقيق. وهو أمر يمكن أن يرتد إلى توسيع كيليطو مفهوم النوع بحيث شمل، في تشغيله، الخطب والرسائل والقصة والمقامة والمثل والموعظة والحكمة والسير والتراجم والأخبار والشرح والحديث والحكايات والروايات البوليسية، فكل هذه المخاطبات عنده أنواع. وهو ما يتعذر معه تحديد الأسس الخاصة بكل نوع على حدة، كما يؤدي إلى تداخل الأنواع بشكل يصعب معه التمييز بينها بدقة. فالحكمة مثلا عند كيليطو نوع مستقل وقائم بذاته، وذلك أمر يحتاج تقريره إلى مراجعة وتمحيص لترسيم الحدود بين الحكمة في شعر زهير والحكمة في ' كليلة ودمنة' مثلا، وقل الشيء نفسه عن الموعظة التي يعتبرها كيليطو نوعا، في حين نجدها تتحول إلى صفة موضوعية في العديد من الأنواع الأدبية الأخرى مثل الخطبة والخبر وكتب الحديث والمقامة والمقام.
إن فحص تصور كيليطو لمفهوم الجنس الأدبي ليكشف عن موقف متشدد، حيث جميع النصوص، فيما يقرر كيليطو، مندرج بالضرورة ضمن جنس محدد، وليس هناك من نص يمكنه الإفلات من قبضة الجنس. وليس يخفى ما ينطوي عليه هذا التصور من شطط، إذ يتجاهل حقيقة بدهية لا نخالها تخفى على الباحث، وهي أنه ليست جميع النصوص خاضعة لسلطة الجنس، فقد بقي العديد منها متعاليا لا يقبل الانصياع لضوابط التجنيس والتصنيف، كما هي الحال بالنسبة للقرآن الكريم، الذي مثل في السياق العربي نصا لغويا يتجاوز، بلاغيا، سائر التجليات اللفظية التي أنتجتها 'العربي'، وقد شكل بذلك حالة متميزة ومفردة في تاريخ الأجناس الأدبية، فلا هو بالشعر ولا هو بالنثر ولكنه ' قرآن' باصطلاح العميد.
( طه حسين: من حديث الشعر والنثر، دار المعارف بمصر ط 10 ـ د.ت ـ ، ص: 25.).
وقد ذهب كيليطو بعيدا في تكريس سلطة الجنس الأدبي، إذ يرى أن المبدع يفقد حريته تماما أمام قواعد النوع التي يخضع لها خضوعا مطلقا من دون أن تكون لديه إمكانية التعديل في مقتضياته أو تغييرها. وهو صريح قوله:
' إن أنواع الحكاية كثيرة وهناك أنواع تفرض تسلسلا معينا يكون على القائم بالسرد أن يحترمه [...] فالمعروف أن منشئي المقامات احترموا بصفة عامة التسلسل الثابت للأفعال السردية كما وضعه الهمذاني، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن تحقيق الإمكانية النهائية الذي قلنا بأنه المجال الوحيد، الذي تظهر فيه حرية القائم بالسرد، يكون بدوره مقيدا بالنوع، بحيث تنعدم تماما حرية الاختيار'( ص: 35 ).
إذا كان المبدع يخضع لمقتضيات النوع ويتقيد بعناصره الأساسية، فإن خضوعه ليس مطلقا ولكنه امتثال جزئي لقواعد النوع الجوهرية. فالمبدع دائما يصارع القيود التي يفرضها النوع، في مسعى لتعديلها بما يوائم نصه من جهة، ويساير التطور الأدبي من جهة مقابلة. وكيليطو نفسه يقرر، كما سبقت الإشارة ، أن النوع لا يتضرر إذا اقتصر التعديل على العناصر الثانوية فيه.





مركز الاسكندرية للسياحة الخضراء